
ذكرتني الإجراءات التى اتخذتها الهيئة العامة لقصور الثقافة – أحد أهم هيئات وزارة الثقافة بمصر – بشأن غلق مائة و عشرون موقعا ثقافيا بمصطلح قرأته منذ فترة على منصة Harvard Business Review بعنوان ” الحصان الميت Dead Horse Theory ” و الذى يتداوله علماء الإدارة العامة، لكن : ماذا يعنى ” الحصان الميت ” ؟
مصطلح يصف عقلية إصرار بعض القيادات، او الهيئات على اتباع حلول غير واقعية تزيد من تعقيد المشاكل بدلا من حلها، و التمسك باستراتيجيات غير فعالة لمحاولة التغطية على فشلها.
نظرية ” الحصان الميت” هى استعارة من حكمة قديمة انتقلت من جيل لآخر عند قبيلة من الهنود الحمر فى داكوتا تقول : ” إذا اكتشفت أنك تركب حصانا ميتا، فإن أفضل استراتيجية هى النزول عنه“.
تتجلى فكرة الحصان الميت فى مسؤول فاشل يهدر موارد المؤسسة يتم الابقاء عليه فى منصبه! ، أو سياسة إدارية قديمة، أو منتج لم يعد يلبى احتياجات السوق، أو خدمة تقليدية لم تطور لتتوافق مع احتياجات الناس.
وبدلا من الاعتراف بالخطأ و التخلى عن القيادات الفاشلة، أو الاستعاضة عن فريق العمل الحالى بفريق اخر، أو تطوير بيئة العمل، يتم التشبث بمن كان سبب المشكلة !!. تؤدى هذه الاستراتيجية الخاطئة إلى خلق رؤية غير متماسكة لن تتمكن من حل المعضلة.
عادة ما تتمسك القيادات/ الهيئات بـ ” الحصان الميت ” لعدة أسباب منها: الاعتقاد أن الأمور ستسير نحو الأفضل على الرغم من أنها تزداد سوءا. عدم الرغبة فى تحمل المسؤولية و الاعتراف بالفشل.
و على الرغم من اتفاقى مع الكاتب محمد سلماوى، و الذى أكد على أنه: ” شيء مخجل حقا ذلك الوضع الذى وصلت إليه بعض قصور الثقافة نتيجة لإهمال وتدهور استمر سنين طويلة، فما شاهدته أخيرا من مبان متهدمة وأخرى مهجورة تسكنها الحيوانات والحشرات يفوق كل التصورات،
كيف توضع لافتات تحمل كلمة الثقافة على مثل هذه المواقع التى يشابه بعضها مقالب القمامة .. ما نراه فى الأقاليم شيء آخر، فبعض المقار التي يطلق عليها وصف قصر، لا يصح أن يكون موجودا أصلا بصرف النظر عن نشاطه، فهو عنوان للإهمال والتردي .. ولا أظن أن أيا منها خدم الثقافة في أي وقت منذ إنشائه..”.
لكن السؤال الذى يطرح نفسه: هل الأفضل تغيير مديري هذه المواقع الثقافية و رفع كفاءتها و تطويرها ؟ أم إغلاقها ؟
و بعبارة أخرى : هل نختار الحل السهل أم الحل الصحيح ؟
و على الرغم من اتفاقنا مع بعض أفكار اللواء خالد اللبان مساعد وزير الثقافة- رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة بشأن أبرز التحديات التى تواجهها هيئة قصور الثقافة حاليًا ” تتمثل فى ضعف التفاعل المجتمعي، وعدم تنوّع الأنشطة المُقدمة للجمهور، إلى جانب غياب خطة تسويقية فعالة تواكب التطورات الحديثة فى المجالين الثقافى والفني.
وقد أدى هذا إلى عجز الهيئة عن الوصول إلى الجمهور بشكل فعّال، مما أوجد فجوة واسعة بين ما تقدّمه الهيئة فى وضعها الحالي، وبين ما يحتاجه المواطن فعلًا ..
كما نعانى من سوء توزيع الموظفين، وللأسف هذا العدد الضخم لا يقدم الخدمة المطلوبة بالكفاءة المنتظرة، فهناك موظفون لا يقدمون خدمة مقابل رواتبهم”.
إلا أننى أعارض فكرة الغلق لعدة أسباب، منها: تناقض فكرة غلق مائة و عشرون موقع ثقافى مع استراتيجية المنظومة الثقافية للدولة 2030 و التى أعدها نخبة من المثقفين و المفكرين – سواء من العاملين داخل وزارة الثقافة أو من خارجها- و التى جاء فيها ص 35 : ” التوزيع العادل للخدمات و المنتجات الثقافية، بما يعنى الخروج من مركزية النشاط الثقافى في القاهرة و العواصم الحضرية إلى العمل في المناطق الريفية و الحدودية المهمشة لإدماجها في السياسة الثقافية التى تتبناها الدولة.
و من ثم التوزيع العادل للخدمات الثقافية و المنتجات الثقافية و اتاحتها لكافة المناطق و المحافظات بلا تمييز بين شمال و جنوب أو بين وسط و أطراف.
يتطلب ذلك التوزيع العادل لميزانية الأنشطة الثقافية بصورة عادلة بين كافة المحافظات بحسب متطلبات التنمية الاجتماعية، بالإضافة إلى العمل الدؤوب على مخاطبة كافة الفئات الاجتماعية دون تمييز بين متعلمين و أميين او بين فئات عليا و أخرى دنيا”.
” كما تقتضى العدالة الثقافية أيضا ضرورة أن يكون العمل الثقافى مرتبط بالناس و قائما عليهم و من أجلهم و عنصرا فاعلا في الارتقاء بهم ثقافيا و وجدانيا، و ادماجهم اجتماعيا و ثقافيا في وطن واحد يلبى حاجتهم و تطلعاتهم في المستقبل دون أى إقصاء أو تمييز”.
تناقض فكرة غلق مائة و عشرون موقع ثقافى مع جاء فى الرؤية الاستراتيجية للثقافة 2030 بشأن وجود” فجوة جغرافية فى عدد المكتبات العامة لكل 100 ألف نسمة“، وأن هدف الاستراتيجية تقليص النسبة إلى0.1 عام 2030، كما يتضح أيضا من تصفح محور الثقافة وجود” فجوة جغرافية فى عدد المراكز الثقافية” لكل 100 ألف نسمة و أن المطلوب هو تقليص الفجوة إلى 0.5 عام 2030.
تناقض فكرة غلق مائة و عشرون موقع ثقافى مع التزام الدولة بنص المادة 48 من الدستور المصري الصادر عام 2014، و التى نصت على أن : ” الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة و تلتزم بدعمه و بإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافي أو غير ذلك. و تولى اهتماما خاصا بالمناطق النائية و الفئات الأكثر احتياجا..”.
لقد كشفت تجارب التحول الاقتصادي التى شهدتها بعض الدول الآسيوية حين استطاعت أن تصل إلى تنمية اقتصادية و اجتماعية فى الوقت الذى فشلت فيه دولا أخرى قد تكون متشابهة معها فى ذات المعطيات الاقتصادية، كشفت تلك التجارب النقاب عن العوامل الثقافية ودورها فى تعزيز التنمية أو عرقلتها.
وكانت اليابان واحدة من الدول التى عُرفت باسم ” المعجزة الآسيوية ” و التى كتب عنها الاقتصادي اليابانى ” يوشيهارا كيونيو” أن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك، حثّت اليابانيين على الاهتمام بالمساعي المادية، العمل الجاد، الادخار للمستقبل، الاستثمار فى التعليم، واحترام قيم المجتمع “
و بقراءة أسماء المواقع التى ستغلق نجد أن معظمها في قرى نائية؛ و السؤال الهام الذى يطرح نفسه:
من المسؤول – أو المسؤولين – عن افتتاح هذه المواقع بالرغم من الصغر الشديد لمساحتها ؟– على حد وصف اللواء اللبان “مثل بيت ثقافة سمالوط، الذى لا تتجاوز مساحته 40 مترا مربعا، فى حين يعمل فيه 87 موظفا، ما يحوله عمليا إلى بيئة غير صالحة للعمل أو الإبداع أو حتى التنقل، وهناك أيضا مكتبة نكلا العنب، التى لا تزيد مساحتها عن 9 أمتار مربعة، تضم 8 موظفين، ما يعنى أن المكان بالكاد يتسع لهم” ؟
و من المسؤول – أو المسؤولين – عن استمرار هذ المواقع بهذا الشكل طوال السنوات السابقة، و هل نجرؤ على محاسبتهم ؟! هل سيتم محاسبة مديرى هذه المواقع الثقافية؟ أو حتى تقييمهم على الأقل ؟
هل سيتم تفكيك الهيئة العامة لقصور الثقافة، مثلما حدث مع الهيئة العامة للاستعلامات؟
هل ستتعاون هيئة قصور الثقافة مع مراكز الشباب و المدارس و مؤسسات المجتمع المدني لتقديم الخدمات الثقافية في القرى و المواقع التي ستغلق؟
يقول الكاتب الكبير عباس العقاد ” إن أردت أن تهـدم أمة فابدأ بهدم ثقـافتها”.