
قرأت للكاتب وجيه الجيار في جريدة الجارديان المصريه أخباراً عن نية إصدار قرار على مستوى رئيس الوزراء، وذلك خلال لقائه بوزير الأوقاف، بأن الحكومة ستحصر الأوقاف المصرية تمهيدا لبيعها، وتقدر قيمتها بنحو 1,5 تريليون جنيه.
سؤال مهم وعميق وخطير، دار في ذهني عندما قرأت ذلك الخبر، وتلك النية لأنه قرار يمس جوهر العلاقة بين الملكية الخاصة، والمصلحة العامة، ودور الدولة كقيّم، وليس كمالك.
لذلك بحثت وأشارككم نتيجة بحثي بغض النظر أن كان الخبر المنشور في الجريدة صحيحا أم لا.
الأمر له ثلاثة مستويات: التعريف، الفهم الفقهي والقانوني، ثم الموقف من بيع الأوقاف.
أولًا: ما هو تعريف الأوقاف الوقف (أو الحبس) و هو“تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة”، أي أن يُحبس الأصل (العقار أو الأرض أو المال) بحيث لا يُباع ولا يُورث، وتُصرف منافعه في وجوه الخير.
وقد عُرِّف فقهيًا بأنه: “حبس العين عن التمليك، وتخصيص ريعها لجهة برٍّ دائمة، تقرّبًا إلى الله.”
ثانيًا: طبيعة الوقف وموقع الدولة الواقف: هو الشخص الذي يملك المال أو الأرض أو العقار، ويقرّر وقفه (حبسه) لصالح جهة عامة أو خاصة (مدرسة، مسجد، أيتام، مستشفى، فقراء، علم…).
الموقوف عليه: هو المستفيد من الريع (مثل الطلبة أو المرضى أو المحتاجين).
الناظر: هو من يدير الوقف. قد يكون فردًا، أو جهة دينية، أو الدولة عبر وزارة الأوقاف.
الدولة ليست مالكة للوقف، وإنما ناظرة عليه، أي تدير شؤونه وتصرف ريعه حسب شرط الواقف، ولا يجوز لها التصرف فيه كأنها مالكة.
ثالثًا: هل يجوز للدولة بيع الأوقاف؟
في الأصل
لا يجوز بيع الوقف شرعًا، لأنه خارج عن دائرة التمليك البشري منذ لحظة الوقف.
ما دام الأصل قائمًا، ويحقق المنفعة المقصودة، فإن بيعه أو استبداله أو تحويله يُعد خيانة لشَرط الواقف
ولكن… في فقه الاستبدال أجاز بعض الفقهاء الاستبدال بشروط صارمة:
أن يكون الوقف قد تهدّم أو لم يعد ينتج منفعة. أن يكون هناك مصلحة راجحة واضحة. أن يتم الاستبدال بـ أصل أنفع وأغزر ريعا. أن يُعاد استثمار العائد في وقف جديد لخدمة نفس الغرض. حتى في هذه الحالة، الدولة ليست حرة في التصرف، بل يجب أن يُحترم شرط الواقف، وأن يُعاد توجيه القيمة لنفس الغرض الخيري.
الخطر الذي يجب التنبه له إذا باعت الدولة الأوقاف وصرفت ثمنها في الميزانية العامة، أو خصصتها لمشروعات لا علاقة لها بغرض الوقف، أو استولت عليها لأغراض تجارية أو سلطوية، فهذا يُعد تعديًا على الملكية الشرعية، وانتهاكًا لأمانة الوقف.
الخلاصة:
الأوقاف ليست ملكًا للدولة، بل هي أمانة بيدها. يجوز فقط الاستبدال المشروط، لا البيع لأغراض مالية أو سياسية. التعدي على الأوقاف يُعتبر شرعيًا خيانة للأمانة، وقانونيًا جريمة. الواجب على الدولة أن تحيي الأوقاف، لا أن تصفيها. أثار البحث في عقلي أيضا سؤال آخر هو كيفية ادارة الاوقاف المصرية ولماذا يكلف بها دائما رجل دين مع احترامي لهم ، اليس من المنطقي للحصول علي افضل ناتج لها ان تدار بخبراء اقتصاد !!!
لأنها إدارة اموال وليست أمراً دينياً.
الأوقاف.. أمانة لا ملكية حين يوقف إنسان ماله، أو أرضه، أو عقاره، فإنما يحرّره من سلطة التوريث والتملك، ويوجهه نحو غاية نبيلة دائمة: خدمة الناس، تعليم الفقراء، علاج المرضى، أو إعمار المساجد والمدارس. الوقف في جوهره عقد أخلاقي، يعلو فوق الزمن، ويتجاوز حسابات الأفراد والدول. هو عقد بين الإنسان وضميره، وبين روحه وخدمة مجتمعه.
والدولة، حين تدير الأوقاف، فهي لا تملكها، بل تنوب عن المجتمع في صيانتها وتوجيه ريعها وفق شرط الواقف. إنها ناظرٌ على أمانة، لا مالكٌ يتصرف بما شاء. فإذا ما باعت الدولة أصل الوقف، أو حوّلت ريعه إلى خزائنها، أو خصصته لمصالح لا تمت لنية الواقف بصلة، فهي لا تؤدي دورها، بل تنقلب عليه.
الأصل في الوقف أنه لا يُباع ولا يُورث ولا يُهدر، إلا في حالات ضيقة أباحها الفقهاء تحت اسم الاستبدال، حين يتهدم الوقف أو تنعدم منفعته، وبشرط أن يُستبدل بما هو أنفع، وأن يُوجَّه الريع إلى نفس الجهة التي حددها الواقف.
أيّ تصرف خارج هذا الإطار هو عدوان على المال العام المقنّن بالشرف، وليس مجرد خرق إداري. بل هو اغتصاب للنية، وخيانة للأمانة، وتشويه لمعنى “الخير” حين يصبح ملفًا استثماريًا في يد السلطة.
لقد كانت الأوقاف في حضارتنا نموذجًا للعدالة المجتمعية المستقلة عن الدولة، وبها قامت المستشفيات والمدارس ومجاري المياه وأبواب الرزق للفقراء واليتامى. ومن المؤسف أن تتحول هذه الثروة المجتمعية إلى عبء في أعين بعض من لا يقرأون التاريخ ولا يقدّرون القيم.
في زمن الشح الأخلاقي، تبقى الأوقاف شاهدًا على أن بعض القلوب لا تزال تتصدق حتى بعد أن تنقطع أنفاسها. فهل نحفظ لهذه القلوب حقها؟ أم نخذلها باسم القانون والتحديث؟!