مقالات وآراء

د.سامح مسلم يكتب: مافيا الدولة

مقدمة: تحوّل الدولة إلى كيان مافيوي

منذ عام 2013 أخذت ملامح الدولة المصرية تتغير بشكل جذري، حيث ظهرت شبكة معقدة من المصالح والنفوذ يقودها عبد الفتاح السيسي وكبار معاونيه، بشكل يجعل الدولة ذاتها تعمل كواجهة لمنظمة مافيا سياسية واقتصادية.

لقد أصبح رأس السلطة أقرب ما يكون إلى زعيم مافيا يتحكم في مفاصل البلاد مستندًا إلى قوة الجيش والأجهزة الأمنية. يشير مراقبون دوليون إلى أن نظام السيسي بات يعتمد أساليب المافيا في إدارة شؤون الاقتصاد والتعامل مع الخصوم ، حتى حذّرت الإيكونوميست المستثمرين من الانخراط في السوق المصرية لهذا السبب.

في هذا البحث نستعرض كيف تحولت مصر في عهد السيسي إلى “مافيا دولة” محمية بقوة السلاح والقانون، عبر السيطرة بالعنف، وإطلاق يد البلطجية، وإحكام قبضة الأجهزة الأمنية على الاقتصاد، وتفكيك مؤسسات الدولة المستقلة، وصولًا إلى التفريط بالسيادة الوطنية في صفقات مشبوهة.

أولًا: العنف والترهيب كأدوات للحكم

اعتمد السيسي منذ اللحظة الأولى على القوة الغاشمة والترهيب لفرض السيطرة. جاءت مجزرة فض اعتصامي رابعة والنهضة في أغسطس 2013 لتؤكد أن النظام الجديد مستعد لاستخدام أقصى درجات العنف ضد الخصوم السياسيين.

تلا ذلك حملة قمع واسعة شملت الاعتقالات والتعذيب والاخفاء القسري، ما خلق مناخًا من الخوف يشبه أساليب عصابات الجريمة المنظمة في ترهيب من يعارضها. ولم يتورع السيسي نفسه عن الخطاب العنيف ضد الشعب؛ ففي إحدى المناسبات تحدث صراحةً عن إمكانية إغراق البلاد بالفوضى والمخدرات إذا ما حاول أحد إسقاط حكمه.

ففي تصريح موثّق بالفيديو عام 2023، قال السيسي: «أدي باكتة بانجو و20 جنيه وشريط ترامادول لـ100 ألف إنسان ظروفه صعبة، أنزله يعمل حالة» – أي بإمكانه إثارة الفوضى عبر توزيع المخدرات والمال على مئات الألوف من البلطجية والمحتاجين .

هذا الكلام اعتبره معارضون تهديدًا صريحًا بأن النظام مستعد لإطلاق موجات من الإجرام المنظّم لإحراق البلد إذا تحداه الشعب. وهكذا استخدم السيسي الترهيب ليس فقط بالقوة النظامية بل وبالتهديد بتسليط الفوضى الإجرامية على المجتمع، ما يعكس عقلية زعيم مافيا يرى الشعب مجرد رهينة لإحكام قبضته.

ثانيًا: البلطجية والميليشيات الموازية في خدمة النظام

أبرز سمات “الدولة المافيا” في مصر هي توظيف البلطجية وعصابات الإجرام كأذرع غير رسمية لأجهزة الأمن. فقد اعتمد النظام على هؤلاء في المواجهات الميدانية ضد الخصوم، لضرب المظاهرات السلمية وترهيب المعارضين، تمامًا كما تستخدم منظمات المافيا عصابات الشارع لتصفية حساباتها خارج نطاق القانون.

ويتجلى هذا التوجه في صعود نجم أشخاص مثل صبري نخنوخ، المعروف بلقب “أمير البلطجية” و”وزير الداخلية الموازي” . وصبري نخنوخ هذا كان أشهر زعيم عصابات في مصر وتم سجنه عدة مرات سابقًا؛ وصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد عام 2013 لاتهامه بقيادة أعمال بلطجة خطيرة. لكن المفارقة أنه بعد انقلاب 2013 صار أحد أذرع النظام الأمنية الخفية، حتى أن السيسي أصدر عفوًا رئاسيًا عنه في 2018 بعد أن قضى خمس سنوات فقط من عقوبته .

خرج نخنوخ من السجن ليصبح لاعبًا مهمًا خلف الستار في خدمة النظام. وتشير تقارير مسربة إلى أن نخنوخ عُيّن بشكل غير معلن مسؤولًا عن شركة الأمن الخاصة “فالكون” التي يستعين بها النظام . وقد كشفت صورة متداولة له على مكتبها عن ملف يُظهر أن “الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية” المملوكة للمخابرات مدينة له بمبلغ 54 مليون جنيه  – في دلالة صارخة على عمق الروابط بين أجهزة الدولة وشبكات البلطجة.

هذا التطور الخطير يعني أن الدولة نفسها تستعين برجل عصابات محترف للقيام بمهام أمنية وإعلامية، في اندماج غير مسبوق بين عالم الإجرام ومؤسسات الحكم.

إلى جانب نخنوخ، برزت ميليشيات محلية موازية تعمل لصالح النظام خارج الإطار القانوني. ففي شمال سيناء مثلًا، اعتمدت السلطات على تشكيل ما يسمى “اتحاد قبائل سيناء” بقيادة رجال أعمال موالين مثل إبراهيم العرجاني لمحاربة التنظيمات المسلحة هناك. هؤلاء المسلحون القبليون يعملون بالتنسيق مع الجيش لكن خارج هيكلية القوات المسلحة الرسمية، مما يخلق قوة موازية أشبه بميليشيا تعمل لحساب النظام.

إن توظيف المجرمين والميليشيات الخاصة لضرب أعداء النظام وضبط الشارع يشابه أساليب المافيا التي تستخدم “العصا الغليظة” عبر رجالها الخارجين عن القانون، مع إبقاء كامل الحماية والإفلات من العقاب لهؤلاء بحكم رعاية الدولة لهم.

ثالثًا: اندماج المال والأمن – احتكارات تحت إمرة الجنرالات

لا تقف مافيوية النظام عند حدود الأمن، بل تمتد بقوة إلى السيطرة على مفاصل الاقتصاد عبر واجهات مدنية وشركات خاصة يحتكرها رجال الجيش والمخابرات. فمنذ 2013 توسع نشاط الجيش الاقتصادي بشكل هائل، وتحول كبار الضباط وشركاؤهم إلى طبقة أوليغارشية تسيطر على موارد البلاد.

تشير تقديرات مستقلة إلى أن حصة الشركات التابعة للمؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري تصل إلى ما بين 50% و60% ومن الناتج المحلي ، رغم نفي السيسي المتكرر إذ يدعي أنها لا تتجاوز 2% فقط . الواقع أن الجيش بات يحتكر قطاعات كاملة من المقاولات إلى الغذاء والدواء والطاقة، مستفيدًا من إعفاءات ضريبية ويد عاملة مجندة مجانية، ما جعل المنافسة شبه مستحيلة. وقد اعترف السيسي ضمنيًا بأن الاقتصاد تحت هيمنة الجيش حين تعهّد لصندوق النقد الدولي بتقليص دور الجيش الاقتصادي مستقبلاً لإنقاذ البلاد  – وهو اعتراف بحجم المشكلة، حتى لو كان تطبيقه مشكوكًا فيه.

إلى جانب شركات الجيش، ظهرت شركات خاصة على صلة وثيقة بالأجهزة الأمنية، تؤدي دورًا احتكاريًا في قطاعاتها بمباركة الدولة. من أبرز الأمثلة شركة “فالكون للأمن” التي توسعت بسرعة لتشمل الحراسات ونقل الأموال وتأمين الجامعات والمنشآت الحيوية. يرأس مجلس إدارتها لواء مخابرات سابق (خالد شريف) ، ويملكها بشكل غير مباشر جهاز المخابرات العامة حسب تقارير صحفية .

وقد حلت هذه الشركة محل وزارة الداخلية في كثير من المهام الأمنية، حيث تتولى تأمين 9 جامعات مصرية كبرى وعلى رأسها جامعتا القاهرة وعين شمس، فضلًا عن تأمين عشرات الشخصيات العامة والمرافق الدبلوماسية في القاهرة . بمعنى آخر، أوكل النظام جزءًا كبيرًا من مهمة حفظ الأمن الداخلي إلى شركة خاصة يسيطر عليها ضباطه، في خصخصة للأمن تمنح المقربين امتيازات مالية هائلة.

ولم يتوقف نفوذ “فالكون” عند الأمن، بل تمدد إلى الإعلام أيضًا عندما استحوذت عام 2017 (عبر شركة تابعة) على شبكة قنوات تلفزيونية كبرى ، مما يعزز قبضة المخابرات على الإعلام تحت ستار القطاع الخاص.

مثال آخر يجمع بين البيزنس والأمن هو إمبراطورية رجل الأعمال إبراهيم العرجاني في سيناء. العرجاني هذا بدأ كشريك مقرب للأجهزة في مشروعات إعمار بسيناء، ثم كوّن مجموعة شركات ضخمة تحظى برعاية مباشرة من السيسي. تحت مظلة “مجموعة أبناء سيناء” يسيطر العرجاني على مجالات المقاولات والتطوير العقاري وإدارة معبر رفح البري، وحتى تجارة الوقود والمواد الغذائية لغزة  .

وقد منحه النظام احتكارات حصرية جعلته يلقب بـ”تاجر حرب غزة وذراع السيسي في سيناء” . إحدى شركاته البارزة هي شركة “إيتوس للخدمات الأمنية” التي تعمل في مجال الحراسة وتأمين الفعاليات الكبرى في جميع أنحاء مصر . هذه الشركة الأمنية الخاصة مكّنته من التغلغل حتى في الوسط الرياضي، حيث أصبحت مجموعة العرجاني الراعي الرسمي للنادي الأهلي في كأس العالم للأندية 2023 ، كما وقع الأهلي معها تحالفًا لتأمين مبارياته ومنشآته ورحلات جماهيره .

ليس هذا فحسب، بل دخل العرجاني حديثًا قطاعًا بالغ الأهمية وهو سوق السيارات الفاخرة؛ ففي أواخر 2022 مُنح وكالة سيارات BMW وميني في مصر ضمن تحالف تجاري جديد ، ما يعد مكافأة من النظام له على خدماته. وبالفعل قام السيسي في 2023 بتعيين إبراهيم العرجاني عضوًا في أحد الأجهزة الرسمية بقرار جمهوري ، تويجًا لعلاقة المصالح بينهما.

إن هذه الأمثلة وغيرها تكشف عن تحالف عميق بين السلطة الأمنية ورأس المال في مصر ما بعد 2013. فشركات مثل “فالكون” و“إيتوس” وكيانات اقتصادية يديرها ضباط أو مقربون من المخابرات تحصل على حصة الأسد من المشاريع والاستثمارات، تحتكر الأسواق وتقصي المنافسين بمساعدة الدولة. إنها مافيا اقتصادية تستغل نفوذ السلطة لاقتسام الثروة، تمامًا كما تفعل المافيا التقليدية حين تسيطر على الأنشطة التجارية الحيوية بمزيج من القوة والفساد.

وقد وصفت الإيكونوميست هذه الظاهرة صراحةً بأن نظام السيسي يعتمد “أساليب المافيا” ضد رجال الأعمال والشركات الناجحة  – حيث يجبرهم على التخلي عن شركاتهم وممتلكاتهم لصالح المؤسسات العسكرية وشبكة المحسوبين على النظام. بهذه الطريقة يتم نهب موارد البلاد بصورة “قانونية” وبالقوة الناعمة، لتصبح ثروات الوطن حكرًا على عصبة محدودة داخل الدولة العميقة.

رابعًا: شبكة المحسوبية والإفلات من العقاب

تتميز أنظمة المافيا بأن الولاء يُكافأ والخصومة تُعاقَب، وقد برع نظام السيسي في توزيع الغنائم وحماية الموالين حتى لو كانوا متهمين بجرائم خطيرة. فخلال السنوات الماضية شهدنا سلسلة من قرارات العفو الرئاسي والإفراجات التي استفاد منها مقربون وأثرياء متورطون في جنايات كبرى، مما أثار جدلًا واسعًا حول معايير العدالة في ظل حكم السيسي. على سبيل المثال، هشام طلعت مصطفى – وهو ملياردير وقيادي سابق بالحزب الحاكم – أُدين عام 2009 بالتحريض على قتل الفنانة اللبنانية سوزان تميم وحُكم بالسجن 15 عامًا. لكنه لم يقضِ من المدة سوى حوالي 9 سنوات حتى أصدر السيسي قرارًا بالعفو عنه ضمن قائمة شملت 500 سجين في سبتمبر 2017 .

خرج هشام طلعت ليستأنف نشاطه الاقتصادي، وترددت أنباء أنه شارك في تمويل مشروعات عقارية للدولة كنوع من “الصفقة” مقابل الإفراج عنه . وبالمثل، محسن السكري – وهو ضابط الشرطة السابق الذي نفّذ جريمة قتل سوزان تميم – حصل هو الآخر على عفو رئاسي في مايو 2020 عن حكم المؤبد الصادر بحقه  ،هذا العفو يبعث برسالة واضحة:
من يحظى برضى النظام يمكنه النجاة من أقسى العقوبات.

هذان المثالان يبينان كيف يفلت المقربون من يد العدالة، مما يقوّض مبدأ سيادة القانون ويكرس ثقافة “فوق القانون” التي تتمتع بها دائرة المحاسيب.

ولا يقتصر الأمر على رجال الأعمال، بل يشمل أيضًا كبار مسؤولي عهد مبارك الذين أعيد تأهيلهم برعاية السيسي. أبرزهم حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق وأكثر من اشتهر بالقمع والفساد.

بعد الثورة حُكم على العادلي بالسجن في عدة قضايا أبرزها الاستيلاء على أموال وزارة الداخلية، وصدر حكم نهائي بسجنه 7 سنوات في إحدى قضايا الفساد. لكن الغريب أنه لم ينفذ الحكم فعليًا، إذ “اختفى” العادلي لفترة وزعمت وزارة الداخلية أنه هارب رغم خضوع منزله لحراسة أمنية مشددة . اعتُبر تغاضي الدولة عنه بمثابة تواطؤ متعمد، حتى أن كاتبًا وصف الأمر صراحة بأن “المتهم الأول هو عبد الفتاح السيسي بشخصه” في واقعة تهريب العادلي من السجن .

وبالفعل، لم يُسجن الوزير الأسبق فعليًا وأعيدت محاكمته ليحصل في النهاية على البراءة أو أحكام مخففة في معظم القضايا، إلى أن خرج حرًا بلا أي إدانة. وخلال تلك الفترة، تردد أنه قدّم خدمات أمنية للسيسي أو احتفظ بتسجيلات سرية تمنحه ورقة ضغط على النظام ، ما يفسر المعاملة الخاصة التي حظي بها.

هكذا نرى أن الدائرة الأمنية القديمة عادت إلى الواجهة ضمن منظومة السيسي، في تحالف بين “الحرس الجديد” و”الحرس القديم” على قاعدة تبادل المنافع وحماية الأسرار المشتركة. إنها عقلية عصابات واضحة: “احمِ ظهري أحمي ظهرك” – فالسيسي يؤمّن للعادلي امتيازات وسلامة مقابل ما يمتلكه الأخير من أسرار حقبة ما قبل 2011 وربما تسجيلات تدين قيادات حاليّة.

في المقابل، من يخرج عن طوع النظام أو يشكل تهديدًا لمصالحه يلقى مصيرًا قاسيًا. رأينا ذلك في التنكيل بكل من تجرأ على منافسة السيسي سياسيًا، كالفريق سامي عنان والفريق أحمد شفيق؛ حيث تم اعتقال الأول وتهديد الثاني لمنعهما من الترشح للرئاسة. كذلك شهدنا مصير رجال أعمال لم يرضخ بعضهم للهيمنة الجديدة، إذ وُجهت لهم قضايا ملفقة أو أُجبروا على التنازل عن أجزاء من ثرواتهم قسرًا.

هذه الرسائل المفاد منها أن النظام يكافئ الولاء المطلق ويعاقب التمرّد بوسائل تمتد من استخدام القضاء إلى استخدام البلطجية والإعلام لتشويه السمعة. إنها ذات قواعد عمل المنظمات الإجرامية التي تعتبر من ليس جزءًا منها إما خصمًا يجب تدميره أو بقرة حلوب يجب ابتزازها.

خامسًا: التوريث الوظيفي – عائلة السيسي فوق الجميع

من أخطر مظاهر “مافيا الدولة” في عهد السيسي ظاهرة التوريث السياسي والوظيفي داخل مفاصل الحكم. فقد أحاط السيسي نفسه وأجهزة الدولة بأقرب المقربين من عائلته ودائرته الخاصة، في سلسلة تعيينات وتسهيلات تجعل الحكم أشبه بشركة عائلية أو عشيرة مافيوية.

وأبرز مثال على ذلك هو صعود ابنه محمود السيسي في جهاز المخابرات العامة. محمود – وهو خريج الكلية الحربية عام 2003 – تمت ترقيته بسرعة غير مألوفة حتى أصبح وكيل جهاز المخابرات العامة (منصب قيادي رفيع يعادل نائب رئيس الجهاز) وهو لا يزال في أوائل الأربعينات من عمره . هذا الأمر أثار تململاً حتى داخل الدوائر الأمنية، خاصة بعد سلسلة إخفاقات أمنية داخلية نُسبت لإدارة محمود.

ونتيجة لذلك، نُقل محمود السيسي بشكل غامض إلى مهمة عمل طويلة في روسيا عام 2019 بدعوى التكليف كملحق عسكري ، في خطوة فُسرت على أنها إبعاد له عن المشهد المحلي عقب نصيحة من حلفاء إقليميين . ورغم هذا الإبعاد المؤقت، يبقى نفوذ نجل الرئيس قائمًا كأحد أفراد “عائلة الحكم” التي بيدها أسرار النظام.

الأمر لا يتوقف عند الابن الأكبر. هناك مصطفى السيسي الابن الآخر الذي وُضع في موقع مؤثر داخل منظومة الرقابة الإدارية (جهة مكافحة الفساد)، كما أن الأخ غير الشقيق للرئيس، اللواء أحمد السيسي، يلعب دورًا في الإشراف على تعيينات القضاء لضمان الولاء .

بهذا الأسلوب استنسخ السيسي نموذجًا مشابهًا لما كان يفعله مبارك في تمكين عائلته، ولكن بوتيرة أسرع وأشد وقاحة. لقد أصبحت مفاصل أمنية وقضائية واقتصادية حساسة تحت إدارة أقارب السيسي أو أصهاره، ما يضع علامات استفهام خطيرة حول أهلية هؤلاء وأولويتهم على حساب الكفاءات الوطنية.

إنها ممارسات أقرب لعقلية “العائلة الحاكمة” بالمعنى الإجرامي، حيث تتقاسم عائلة الزعيم ثروات النفوذ تمامًا كما تتقاسم عائلة الدون مناطق السيطرة في المافيا.

وقد انتشر مصطلح “جمهورية آل سيسي” للتعبير عن هيمنة هذه العائلة ومقربيها على الدولة وكأنها ملكية خاصة. يضاف إلى ذلك تغلغل المحسوبية على نطاق أوسع، حيث تتم ترقيات كبار المسؤولين وقادة الجيش بناءً على معيار الولاء الشخصي للرئيس ومنفعة شبكته، لا على أساس الكفاءة أو الأقدمية. هذا الجو خلق حالة إحباط واسعة لدى الكوادر المحترفة التي همّشت، وأيضًا أسس لبنية حكم غير مؤسسية، تدين بالولاء للأشخاص لا للدولة.

سادسًا: تفريط في السيادة وارتهان للخارج

لا يكتمل توصيف مافيا الدولة دون النظر إلى كيفية إدارة النظام لعلاقات مصر الدولية وحقوقها السيادية. فالسيسي متهم بأنه فرّط في أرض مصر وثرواتها مقابل دعم الخارج لبقائه في الحكم، في صفقات يشوبها الغموض وتعارض المصالح الوطنية.

أوضح مثال على ذلك هو قضية تيران وصنافير. فقد فاجأت السلطة المصرية الجميع عام 2016 بإعلان توقيع اتفاقية تمنح المملكة العربية السعودية السيادة على جزيرتي تيران وصنافير الإستراتيجيتين عند مدخل البحر الأحمر، واللتين كانتا تحت الإدارة المصرية منذ عقود.

هذه الخطوة اعتبرها كثيرون تنازلًا غير مبرر عن أرض وطنية مقابل حزمة مساعدات مالية سعودية. ورغم صدور حكم قضائي نهائي ببطلان التنازل عن الجزيرتين، أصرّ السيسي على تمرير الاتفاقية عبر البرلمان في 2017، ليتم تسليم الجزيرتين رسميًا لاحقًا . أثار ذلك موجة غضب شعبي عارم واحتجاجات قمعتها الأجهزة الأمنية، واعتُبر الأمر سابقة خطيرة في التفريط بأراضي الدولة. ووصف سياسيون مصريون ما جرى بأنه بيع للأرض مقابل بقاء النظام، ضمن سلسلة تنازلات باتت تميز حقبة السيسي.

إلى جانب الأرض، شهدت موارد أخرى تفريطًا أو سوء إدارة يرقى للتفريط. فمثلاً وقّعت الحكومة في 2018 اتفاقية لاستيراد الغاز من إسرائيل بقيمة 15 مليار دولار، رغم اكتشاف مصر حقول غاز ضخمة في البحر المتوسط كان يفترض أن تحقق الاكتفاء والتصدير.

الخطوة اعتبرها خبراء إهدارًا للموارد وإثراءً لدولة الاحتلال على حساب مصر، خاصة وأن مصر كانت قبل سنوات مصدّرًا للغاز لإسرائيل لا مستوردًا. وبرر النظام ذلك حينها باعتبارات تقنية وتسويات قانونية، لكن كثيرين قرأوه في إطار سياسة “ترضية الحلفاء” الإقليميين والدوليين لضمان دعمهم للنظام.

كذلك اتسم عهد السيسي بتنسيق أمني غير مسبوق مع إسرائيل بدعوى مكافحة الإرهاب في سيناء. تقارير إسرائيلية أكدت أن التعاون الاستخباري والعملاني بين الجيشين المصري والإسرائيلي وصل إلى حدود غير مسبوقة في عهد السيسي . حتى إن طائرات إسرائيلية بدون طيار نفذت ضربات ضد جماعات مسلحة داخل سيناء بموافقة القاهرة ، في مشهد لم يكن يمكن تخيله في عهود سابقة، ما اعتبره محللون مساسًا بالسيادة المصرية وارتباطًا وثيقًا بين النظام الحالي وتل أبيب.

فلا عجب أن وصف مسؤولون إسرائيليون نظام السيسي بأنه “أوثق حلفاء إسرائيل الإقليميين” ، وأن سقوطه يمثل كابوسًا لصناع القرار هناك . هذه الشهادة وإن كان ظاهرها إيجابي، لكنها في نظر قطاع واسع من المصريين إدانة لنظام يرهن أمن مصر القومي بتفاهمات مع عدو الأمس التاريخي.

أما اقتصاديًا، فقد أدمن نظام السيسي الاستدانة والارتهان للخارج على نحو يهدد استقلال القرار الوطني. ارتفع الدين الخارجي لمصر إلى مستويات غير مسبوقة تجاوزت $160$ مليار دولار في 2024، بفضل القروض المتتالية من صندوق النقد الدولي والدائنين الخليجيين . وبدل أن يعزز الاقتصاد المنتج لسداد تلك الديون، زجّ الجيش في مشروعات عقارية وخدمية غير مجدية وواجه القطاع الخاص تضييقًا، فزاد الركود وتبعية الاقتصاد للخارج.

هذا النمط أشبه بما تفعله عصابات غسيل الأموال حين تغرق شركة ما بالديون لتخضعها تمامًا لنفوذها. وقد باتت السيادة الاقتصادية المصرية منقوصة مع اشتراطات الدائنين (كبيع أصول حكومية وشركات جيش ) وضغوطهم على القرار السياسي. يوازي ذلك تفكيك منهجي لمؤسسات الدولة ذات الطابع المستقل – كالقضاء والإعلام والجامعات – ووضعها تحت هيمنة الأمن، ما جعل الدولة المصرية أضعف داخليًا وخارجيًا رغم القبضة الحديدية للنظام.

سابعًا: تفكيك الدولة من الداخل – اتهامات العمالة والخيانة

مجمل هذه السياسات والممارسات قاد خصوم السيسي إلى اتهامه صراحةً بأنه عميل لقوى أجنبية يعمل على تفكيك الدولة المصرية من الداخل. ورغم خطورة هذا الاتهام، إلا أنه يتردد بقوة في أوساط المعارضة منذ سنوات استنادًا إلى سلسلة وقائع.

بدأ ملف التفكيك بالتنازل عن تيران وصنافير كدليل أول، إذ يعتبر خضوعًا لإرادة السعودية وحليفها الأمريكي على حساب التراب الوطني. ثانيًا، التنسيق مع إسرائيل بهذا العمق الأمني والسياسي غير مسبوق، يرونه مؤشرًا على أن السيسي يؤدي دورًا مرسومًا لإدماج إسرائيل في المنطقة على حساب الدور المصري التقليدي المناصر للقضية الفلسطينية. يضاف إلى ذلك إضعاف الجيش المصري ذاته عبر إقحامه في البيزنس وإبعاده عن جاهزيته القتالية، ما جعل بعض المحللين يحذرون من انهيار عقيدته العسكرية.

وفي ملف سد النهضة الإثيوبي، وقع السيسي اتفاق 2015 الذي مكّن إثيوبيا من إكمال بناء السد ما شكل خطرًا وجوديًا على مصر، وبالتالي مثل تفريطًا خطيرًا في الأمن المائي المصري مقابل رضا دولي وإقليمي .

الموضوع أبعد من ذلك لأنه يشكك في وطنية السيسي نفسه ، بما يتعلق بأصوله وعلاقاته الخارجية. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة جزائرية عام 2013 مقالًا يزعم أن «السيسي عميل زرعته المخابرات الإسرائيلية من البداية في هياكل مصر… وأصبح جاسوسًا مدسوسًا» لتحقيق أهداف تل أبيب .

كما وصف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بقيادة الشيخ يوسف القرضاوي، السيسي بأنه “عميل لليهود” في بيان له عام 2014، متهمًا إياه بالتعاون سرًا مع إسرائيل لتدمير الديمقراطية الوليدة في مصر . وعندما يرى الناس ثروات بلدهم تُبدد، وجزرهم تُباع، وجيشهم يُهمَّش، وسيادتهم تُنتهك – لا يجدون تفسيرًا سوى أن من يفعل ذلك قد يكون “عميلًا خارجيًا” ينفذ مخططًا لتفكيك الدولة المصرية لصالح قوى أجنبية. ويعززون كلامهم بكون وصول السيسي للسلطة نفسه أتى بدعم قوي من دول مثل الإمارات والسعودية وإسرائيل، ما يجعله مدينًا لها ويعمل وفق أولوياتها لا أولويات شعبه.

ورغم أن البعض قد يرى هذه الاتهامات مبالغًا فيها أو مدفوعة بالخصومة السياسية، لكن الواقع المؤلم هو أن ممارسات النظام نفسها اثبتت صحة هذه الادعاءات. فحين تُدار الدولة بعقلية المافيا – حيث الصفقة والرشوة والابتزاز هي لغة التعامل – يسهل اختراقها خارجيًا وتوظيفها في أجندات غير وطنية.

وقد حذرت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش من أن تركيز السيسي على تحصين نظامه أمنيًا وقمع مؤسسات الدولة المستقلة أضعف قدرة الدولة المصرية على أداء وظيفتها الأساسية . أي أنه في سبيل حماية نظام المافيا هذا، جرى تفكيك منظم لبنية الدولة القانونية والمؤسسية، فأضعف مناعة مصر الداخلية وجعلها أكثر عرضة للضغوط والاملاءات الخارجية.

بهذا المعنى، حتى لو لم يكن السيسي “عميلا” بالمعنى الحرفي، فإن سياساته حققت فعليًا أهداف خصوم مصر التاريخيين عبر إضعافها داخليًا وخارجيًا. وهذه هي أخطر نتائج حكمه التي ستحتاج مصر لسنوات طويلة للتعافي منها.

خاتمة: دولة تحت حكم المافيا

في ضوء ما سبق، تتضح صورة نظام عبد الفتاح السيسي ككيان سلطوي يستوفي كل سمات الدولة المافيوية.

فعناصر المشهد تشمل:

  • هيمنة مطلقة لقائد فرد تحيط به عصبة ولاء خاصة؛
  • استخدام منهجي للعنف والبلطجة لإرهاب الخصوم وضبط الشارع؛
  • تغلغل غير شفاف للأجهزة الأمنية في الاقتصاد عبر شركات واجهة واحتكارات؛
  • شبكة محسوبية تمنح المقربين حصانة وثروة مقابل الولاء، بينما تسحق المنافسين بلا رحمة؛
  • توارث المناصب والنفوذ عائليًا لضمان استمرار السيطرة عبر الأجيال؛
  • ثم ارتهان القرار الوطني خارجيًا وتفريط في الحقوق السيادية مقابل دعم بقاء السلطة. هذه جميعها سمات تقليدية لعصابات المافيا حين تسيطر على دولة من الداخل.

لقد أصبح النظام السياسي المصري أشبه بطبقة فوق الدولة: طبقة تعلو على القانون والمساءلة، تستنزف موارد البلد وتحتكر سلطاته الثلاث، وتتعامل مع الشعب بمنطق التابع لا صاحب السيادة.

إن خطورة هذا الوضع لا تقتصر على الحاضر، بل تنسحب على المستقبل أيضًا. فمع كل يوم يرسخ فيه هذا النموذج، تترسخ ثقافة فساد وقوة وعنف سيكون اقتلاعها صعبًا حتى بعد زوال الشخصيات الحالية. لقد قال السيسي يومًا – مبررًا قبضته الحديدية – «إحنا مش هنسمح إن مصر ترجع تاني للفوضى».

لكن المفارقة أن سياساته قادت إلى فوضى من نوع آخر أشد خطورة: فوضى مؤسساتية وقيمية تنخر عظم الدولة من الداخل. وإذا كانت المافيا التقليدية تنهار في النهاية تحت ضربات القانون، فإن مافيا ترتدي زي الدولة وتملك جيشًا ومخابرات هي خصم أصعب بكثير.

رغم السطوة الحالية، تحمل تجربة التاريخ دروسًا بأن الشعوب لا تستسلم أبدًا للمافيا الحاكمة طويلًا. قد ينجح “دون او عزيز” مصر الحالي في تحصين عرشه لبعض الوقت عبر القمع والصفقات، لكن كلفة ذلك تأتي على حساب انهيار العقد الاجتماعي وثقة المواطنين بدولتهم.

ومع تراكم الغضب الشعبي من الفقر والظلم وبيع الأوهام، يقترب النظام المافيوي من لحظة مواجهة حتمية مع أصحاب الحق الشرعيين في السلطة والثروة:

أي الشعب المصري ذاته.

وعندها لن تنفعه ملياراته ولا بلطجيته. مافيا الدولة إلى زوال ولو بعد حين؛ أما دولة القانون والمؤسسات فستبقى مطلب المصريين حتى يستعيدوا وطنهم المخطوف. والأيام دول.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى