
في زحمة التحليلات السياسية، وضجيج المؤتمرات وخطابات العواصم، كثيرًا ما تغيب الحقيقة الأعمق: ليست كل المعارك تُحسَم بخريطةٍ ولا بندقية، ولا كل المخططات تُمرَّر على وقع الاجتماعات والصفقات. هناك مكرٌ أعلى… لا تراه العيون، ولا تحيط به غرف العمليات. مكرٌ من الله.
لقد خطّطت النُّخبُ، وهندست خرائط التهجير، وزرعت قنابل ديموغرافية في قلب الشرق، وتلاعبت بمسارات التاريخ، فدفعت بفلسطين نحو جرحٍ جديد، هذه المرة اسمه: التهجير إلى العريش وسيناء، وإخلاء غزة، وإعادة صياغتها كمنطقة عسكرية مغلقة، ثم إحالة القضية برمّتها إلى مسارات التطبيع وإعادة الإعمار المشروط.
مشروع كامل من “الهندسة السكانية” و”الهندسة السياسية”، تظاهرت فيه النخب بالدهاء، وتواطأت مع منظومات القوة الإقليمية والدولية، معتقدة أنها تُحكم قبضتها على أقدار الشعوب. لكنها نسيت أمرًا جللًا… أن هناك مكرًا إلهيًّا لا يُدرك بالحسابات ولا يُقاوَم بالقرارات.
المكر البشري… وَهْمُ التفوق
ما فتئت النخبة تُراوغ. تُناور الشعوب بالعقل والسياسة، وتخدعهم بالمصطلحات. تتحدث عن “حلول واقعية”، و”مبادرات سلام”، و”خطط إنقاذ”، وكلها في حقيقتها تغطيةٌ لتهجيرٍ ممنهج، وتجريدٍ للفلسطيني من وطنه، وتقديمه قربانًا على مذبح التحالفات الجديدة.
لكنّ ما لم تدركه تلك النُّخَب هو أنها لم تَعد فقط تُخاصمُ شعوبها… بل دخلت دائرة التحدّي مع الله جلّ في علاه.
فالقرآن صريح في بيان سنن الله:
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ﴾
[إبراهيم: 46]
بلغ مكرُهم ذروته…
لكنَّ مكرَ الله قد بلغ منتهاه أيضًا.
مكرٌ مفتوحٌ على الغيب
الفرق الجوهري هنا هو أن مكر البشر محدود:
• تحكمه أدوات السياسة
• وتحدّه قنوات الإعلام
• وتسيطر عليه موازين السلاح والمال.
أمّا مكر الله فهو:
• مفاجئ في التوقيت
• شامل في التأثير
• قاطع في النتائج
ليس من شأننا أن نحدِّد شكله ولا أن نرسم موعده، لأن هذا ليس من نصيب التحليل السياسي، ولا حتى من فتوحات البصيرة الاستراتيجية، بل هو نصيب اليقين الإيماني…
يقينٌ يُبنى على استقراء سنن الله في الظالمين، وفهم دورات التاريخ، وقراءة إشارات السماء حين تتأهّب للتدخّل.
لا نعلم كيف… ولكننا نُوقِن
هل هو زلزال سياسي؟
أم انشقاق مدوٍّ في صفّ المتآمرين؟
هل هو سقوطٌ مفاجئ لقوةٍ ظنّت أنها لا تُهزم؟
أم نصرٌ مباغت، يُحدثه الله من حيث لا نحتسب؟
لا نعلم…
لكنّنا نُوقِن.
نُوقِن أنّ ساعة الله لا تخلف،
وأنّ وعده للمظلومين آتٍ لا ريب فيه،
وأنّ من يتحدّى شعبًا قد يسلم من العواقب…
لكن من يتحدّى الله، فقد حكم على نفسه بالفناء.
حين تنقلب المعادلة
هكذا تجري السنن…
• حين يشتد الظلم… يُكشَف النور.
• حين يبلغ المكرُ مداه… يُفتَح باب السماء.
• حين تتكامل أركان الفتنة… ينقلب الميزان.
الخطة التي صيغت بهندسة القوة، تنهار بلحظة واحدة من مكر الله.
والتهجير الذي أريد له أن يكون خاتمة القصة، يصبح بداية التحرير.
والمعركة التي أرادوها صراعًا مع الجغرافيا والديموغرافيا، تصبح صراعًا مع الله.
لحظة اللاعودة
في هذه اللحظة، يصبح استمرار المخطط إصرارًا على تحدي الله، لا مجرد مشروع سياسي.
وهنا يتغير كل شيء…
لا يعود للقرارات معنى،
ولا للتحالفات قيمة،
ولا للتنازلات جدوى.
من يتقدّم بعد هذه اللحظة، يتقدّم نحو مصيره.
ومن يصرّ على تنفيذ المخطط، يفتح على نفسه بوابة السقوط، لا بوابة النجاح.
خِتامًا
أيها المتواطئون، أيها الصامتون، أيها المراوغون من النُّخب والنُّظم والصفقات…
احذروا أن تتحدّوا الله كما تتحدّون الشعوب.
فقد تبلغون بقوتكم ما تظنونه ذروة النجاح…
لكنّكم لا تدرون أنّكم تقتربون من منطقة الهلاك الإلهيّ…
﴿وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾
[فاطر: 43]