دراسات المصالحة”: نهج متكامل لبناء السلام المستدام وتجاوز الصراعات العنيفة

أكد خبراء في مجال دراسات المصالحة على أن المصالحة تُعد بديلاً واعدًا للتوترات والعنف المستمر، وتقدم مسارًا لبناء علاقات “طبيعية” و”جيدة” بين الدول والجماعات والأفراد في أعقاب الحوادث الخطيرة كالحروب والإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان. ويأتي هذا التأكيد في ظل تزايد الحاجة إلى مقاربات شاملة لإنهاء الأعمال العدائية المستمرة.
تهدف دراسات المصالحة إلى الوصف العلمي، وتفسير وتقييم عمليات إعادة بناء العلاقات المجتمعية بعد النزاعات، مع التركيز على خمسة أبعاد أساسية: المصالحة مع الذات، مع الآخر (الآخرين)، مع المجموعة الخاصة، مع البيئة، ومع السمو.
وشدد الخبراء على أن المصالحة ليست مرادفًا للسلام “الرخيص” أو التخلي عن الحقوق. بل هي عملية معقدة تتضمن بالضرورة العدالة، والتعويضات، والعمل على معالجة الصدمات، وبناء الأمن، والمواجهة المستمرة للماضي العنيف وذنب الجناة، بما في ذلك معاقبتهم. وهذا يمثل تصحيحًا لسوء فهم شائع يرى أن المصالحة تعني قبول الضحايا لأخطاء الجناة دون مطالبات بالعدالة أو التعويض.
ممارسات متعددة الأوجه لبناء المصالحة:
تتضمن عمليات المصالحة مجموعة واسعة من الممارسات على مستويات مختلفة:
أحكام سياسية وقانونية: مثل معاهدات التعاون وتوضيح النزاعات الإقليمية. بناء أمني مشترك: يشمل نزع السلاح وإدارة الأزمات. أفعال رمزية واعتذارات رسمية: لتكريم الضحايا وإظهار الصداقة. تعويضات ومحاولات ترميم: لضحايا العنف. تعاون مدني ومجتمعي: من خلال توأمة المدن وبرامج التبادل. مواجهة التاريخ: عبر فتح المحفوظات، عمل المؤرخين، بناء المتاحف والنصب التذكارية، وحق الضحايا في المعرفة. لقاءات بين الضحايا والجناة: سواء من خلال لجان الحقيقة والمصالحة أو خارجها. استراتيجيات لتأهيل صورة الآخر: والتغلب على الصور النمطية السلبية. تغيير خطاب القادة الدينيين: خاصة في النزاعات ذات الأبعاد الدينية. مساعدة فردية: طبية ونفسية واجتماعية للضحايا. وأوضح الخبراء أن عمليات المصالحة تأخذ في الاعتبار التوجه نحو الماضي ومعالجته، والحفاظ على الذكرى، والبحث عن الحقيقة والاعتراف بها، والاعتراف بالذنب، وتقديم الاعتذارات، وتعزيز التعاطف، والتعبير عن العواطف، ورؤية مستقبل مشترك.
“منظور هولدرلين”: المصالحة تبدأ في قلب الصراع
تبرز دراسات المصالحة نهج “منظور هولدرلين”، الذي يؤكد أن المصالحة يمكن أن تبدأ في “منتصف الصراع” وليس فقط بعد انتهائه. يركز هذا المنظور على العناصر الإيجابية المحتملة وسط النزاع، مثل الجماعات أو الأفراد الذين يختلفون مع الصراع، والقوانين والأعراف المشتركة، ولحظات التعاون الاقتصادي، والمشاعر المشتركة، والارتباطات بين الفعل ورد الفعل.
وتدرس دراسات المصالحة هذه العملية الشاملة، التي تشمل المجتمع المدني، القادة السياسيين، المتخصصين من مختلف التخصصات، الناشطين الشعبيين، المحامين، علماء النفس، القادة الدينيين، المؤرخين، ووسائل الإعلام، بالإضافة إلى الأدب الكلاسيكي، وتُعاش غالباً كمسار روحي، لكن يمكن رؤيتها أيضاً بمصطلحات براغماتية تماماً.
تُعد المصالحة عملاً طويل الأمد يهدف إلى خلق “ثقافة سلام” دائمة، وهي وإن كانت تتطلب جهودًا نفسية وروحية وتكاليف، إلا أنها تبقى أقل بكثير من تكلفة ثقافة الأمن القائمة على الأسلحة والجيوش. ويدعو الخبراء جميع الراغبين في مستقبل أفضل لأنفسهم ولأجيالهم القادمة إلى النظر في المصالحة كإمكانية حقيقية.
المصدر مركز جينا لدراسات المصالحة