
هل ظرفت الشعارات، والتصريحات المنمّقة التي صاغ كلماتها ومفرداتها المسؤولون اللبنانيون، الحياة السياسية اللبنانية؟! وهل لمّعت وجوه المسؤولين الذين أداروا ويديرون شؤون الدولة والوطن على مدار عقود منذ الاستقلال وحتى اليوم؟!
إنهم المسؤولون الوحيدون في هذا العالم الذين لم ينفكّوا عن إبداء غيرتهم، واندفاعهم، وحرصهم الشديد في الحديث عند كلّ مناسبة، عن سيادة الدولة، والقرار اللبناني الحرّ، وعن الوحدة الوطنية، والعيش الواحد. الإكثار في الحديث عن السيادة وعن الوحدة الوطنية، يعني للملأ أنّ هناك تصدّعاً وإشكالية على صعيد السيادة، والوحدة الوطنية، وأنّ هناك علامات استفهام حول حقيقتها التي يرى في مفهومها العديد من اللبنانيين على أنها قابلة للاجتهاد، ولوجهات النظر المختلفة، لتصبح في ما بعد حمّالة أوجه، ليغني بعد ذلك كلّ فريق على ليلاه!
اللبنانيون توّاقون إلى الدولة القادرة المقتدرة ذات السيادة الفعلية لا الصورية، الدولة التي تمتلك قرارها السيادي المستقل عن قوى الهيمنة والنفوذ. لكن متى وكيف؟!
الحفاظ على السيادة، وعلى القرار الوطني المستقلّ، لا يتمّ من خلال التصريحات والكلمات المنمّقة المختارة بعناية، والحركات المسرحيّة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، خاصة أنّ اللبنانيين منذ الاستقلال أصيبوا باليأس والإحباط، نتيجة فشل الحكومات في كل عهودها، وتقاعسها، ولا مبالاتها وعجزها عن القيام بدورها كما يجب، لأنّ الدولة العميقة أمسكت بمفاصل الدولة الظاهرة منذ الاستقلال وحتى اليوم، دولة تمثلت بشبكات أصحاب رؤوس الأموال، والامتيازات، والصفقات، والوكالات الحصرية، جسّدت في داخلها أبشع أنواع الإقطاع السياسيّ والمالي والاجتماعي.
دولة عميقة غرست أنيابها بشدة في جسم الدولة، بوزاراتها، وإداراتها، وقضائها، ومؤسساتها، وسخرت المشاريع، وسنّت القوانين لتكون في صالحها وخدمتها، وتحصينها من أيّ تطهير، أو مساءلة أو ملاحقة قانونيّة! مَن يطالع بيانات الحكومات اللبنانيّة التي تشكلت منذ الاستقلال وحتى اليوم، يتساءل عما إذا التزمت يوماً حكومة ما ببيانها الوزاريّ، ونفّذته نصاً وروحاً، وأوفت بوعدها في تحقيق التنمية، والإصلاح الإداريّ، والعدالة الاجتماعيّة ومحاربة الفساد؟! هل سُئلت مرة حكومة ما عن أدائها، وإنجازاتها، وفشلها، وتقاعسها؟!
مَن يسأل مَن، لطالما أنّ الحكومات في حقيقتها، ليست إلا انعكاساً للدولة العميقة الخفيّة، التي تفعل ما تشاء، حيث لا رقيب عليها، ولا حسيب! لماذا فقد اللبنانيّون ثقتهم الكاملة بحكوماتهم التي كلما أتت حكومة جديدة، كانت شبيهة بسلوكها وأدائها بالحكومات التي سبّقتها، أكان ذلك من حيث الوعود المعسولة، أو من حيث المسؤوليّة الهشّة، والأداء العقيم، والمشاريع التي بقيت حبراً على ورق، ولم تعرف طريقها إلى التنفيذ!
أليست رئاسات الجمهورية والحكومات الوزاريّة، والمجالس النيابية المتعاقبة منذ 82 عاماً، هي التي أوصلت لبنان الدولة والشعب إلى ما هو عليه اليوم؟! لماذا نهرب من الحقيقة، ومن واقعنا المرير، لنغطي فشلنا واستهتارنا في بناء الدولة القويّة، لنحمّل مسؤوليّة هذا الفشل على دول الخارج، وتدخلها في شؤوننا الداخلية، لنبرّئ أنفسنا من سياسات العجز، والفساد، والرشوات، والبيروقراطيّة، والمحسوبية، والمناطقية، التي نخرت بشدة عقول وسلوك المسؤولين!
في الخمسينيات من القرن الماضي، وهروباً من الواقع اللبناني التعيس، الذي تعاطينا معه بشكل سيّئ، حمّلنا مسؤوليّة الأحداث التي شهدها لبنان على السياسة الناصرية، دون أن نشير إلى مشروع أيزنهاور، وانعكاساته السلبيّة على لبنان ودول المنطقة، والغزل اللبنانيّ للمشروع، وما كان يُحضّر له لإدخاله في فلك النفوذ الأميركي.
في السبعينيّات أيضاً، حمّلنا مسؤولية الأحداث في لبنان على عاتق المنظمات الفلسطينيّة، دون أن نحمّل الحكومة اللبنانيّة والمجلس النيابي المسؤولية على موافقتهما على اتفاق القاهرة، الذي حذّر منه مسبقاً الرئيس جمال عبد الناصر! في الثمانينيّات أيضاً وضعنا المسؤولية على النظام السوري حيال ما جرى في لبنان، ومنذ التسعينيّات بدأنا دون توقف نحمّل مسؤولية ما يجري في لبنان، على إيران والمقاومة. بعيداً عن الحقيقة، وتهرّباً من واجباتهم، لم يركز العديد من المسؤولين على العلل التي فتكت بالجسم اللبناني جراء الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية، ولا على التدخل السافر المكشوف في الشؤون اللبنانية من قبل دول غربية، التي تزجّ أنفها في كلّ صغيرة وكبيرة.
ما الهدف من تركيز العديد من «السياديّين» هذه الأيام، على دور الفصائل الفلسطينيّة، وعلى الوجود السوري (نظام الأسد)، والإيرانيّ، وتحميلهم مسؤولية ما شهده لبنان في العقود الماضية من تطوّرات وأحداث؟! تركيز يأتي بعد انتخاب رئيس للجمهورية، ورئيس للحكومة، في الوقت الذي يفعل الأميركيّ في لبنان ما يشاء، وفي الوقت الذي يستبيح العدو الإسرائيلي سيادة لبنان، ويواصل اعتداءاته المدمّرة دون أن نرى أيّ ردّ فعل من هؤلاء «السياديّين» الغيارى على لبنان وشعبه، والوسيلة «السيادية» للحكومة التي تستخدمها الدولة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية اليوميّة، وأيضاً النفوذ الأميركي الواسع النطاق داخل لبنان، الذي تعكسه تصريحات الدبلوماسيّين، وتدخلات المبعوثين الأميركيّين وإملاءاتهم النافرة التي تجاوزت الأصول والأعراف والقوانين الدوليّة، واستخفّت بشكل فاضح بالمسؤولين، وبالسيادة اللبنانيّة.
إذا كانت السيادة اللبنانية على حدّ زعم العديد من السياسيين والمسؤولين اللبنانيين مصادرة من قبل الفلسطيني والسوري، والإيراني، فليقولوا لنا، هل السيادة اللبنانيّة مصانة اليوم تجاه الأميركي وغير الأميركي؟! ليقل لنا المسؤولون الحاليّون عما إذا كان القرار اللبناني في الوقت الحاضر، قراراً سيادياً مستقلّاً بامتياز؟! مَن هو «السياديّ» في لبنان ليجرؤ على قول الحقيقة دون مراوغة أو لفّ أو دوران، وهي أنّ لبنان لا يزال يبحث عن السيادة التي فرّط بها حكامه منذ الاستقلال وحتى اليوم، حيث لم تصل غالبيتهم إلى الحكم إلا بعد الموافقة عليهم من خارج الحدود، لتتمّ البصمةُ والختم على «جباههم» «صنع في الخارج»! يا سادة لبنان ! لا تحمّلوا المسؤولية بعد اليوم للآخرين، ولا تهربوا من الحقيقة الدامغة، وهي أنّكم لم تكونوا يوماً على مستوى المسؤولية الوطنية لحماية وطن، وبناء دولة، وصون شعب، والحفاظ على وحدته ونسيجه الوطني.
بل كنتم ولا زلتم مقيّدين بالدولة العميقة بكلّ ما فيها من سلطة، وفساد، وامتيازات، وسطوة، ونفوذ واستغلال. سيادة الدولة أيها السادة، لا تكون ذات وجهين: ترفض جهة وتقبل بأخرى، تعادي دولة، وتصادق غيرها. السيادة لا تتجزأ، فإما أن تكون أو لا تكون. إن كلّ فذلكة لبنانية تعتبر تدخل الولايات المتحدة في الشؤون اللبنانية، يأتي من باب التعاون والتنسيق، والصداقة، ليس في الحقيقة إلا تدخلاً معيباً بحق لبنان دولة وشعباً، ويمسّ مباشرة بـ «السياديين» الذين ما زالوا يتباكون على السيادة التي لم يحفظوها يوماً.
ما دامت الدولة العميقة متجذّرة، شرسة في جسم الوطن، فلا أحد يعوّل مطلقاً على بناء الدولة، وإنْ كانت نيات البعض تتّجه للإصلاح والتغيير. إذ لا مجال للإصلاح وفي داخل الدولة، دولة عميقة تقبض على كلّ مفصل، وتعطّل بوسائلها المدمّرة كلّ تغيير أو إصلاح يطالها، ويطال امتيازاتها من قريب أو بعيد ! عندما تنكسر الدولة العميقة وتنهزم، ويصبح للحكومة قرارها المستقلّ تجاه قوى الهيمنة، عندها سنقول: الإصلاح آتٍ، والسيادة الحقيقيّة يمكن التباهي بها والحديث عنها. عدا عن ذلك، ستبقى الثرثرة حول الإصلاح، والسيادة، والقرار المستقلّ مستمرّة، وهي التي لم تفارق المسؤولين «الإصلاحيين»، و»السياديّين» في حديثهم عنها، ووعدهم اللبنانيّين بها منذ «الاستقلال» وحتى اليوم.
العهد الجديد على المحك، فمن ينتصر في نهاية المطاف: لصوص الدولة العميقة، أم دولة السيادة والقانون، والعدالة والإصلاح، والبناء، والمحاسبة التي بشّر بها العهد الجديد برئيسه وقاضيه! في قمة الإعلام العربي في دبي، أشار رئيس الحكومة إلى «التحرّر من ثنائية السلاح التي كانت تؤدي إلى ثنائية القرار، وبالتالي إلى ضياع مشروع الدولة»! حسناً، مشروع بناء الدولة العتيدة بين أيديكم اليوم يا دولة الرئيس، وما دمتم شربتم حليب السباع، فإننا ننتظر أفعالكم تجاه الدولة العميقة، والفساد المستشري، ومحاكمة سارقي المال العام والخاص، وتطهير الإدارة من المرتشين والمحاسيب، وملاحقة مافيا المصارف، وكلّ الذين أثروا على حساب الخزينة العامة، وعلى حساب المودعين، والأهم من كلّ ذلك تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي! إننا بالانتظار يا دولة الرئيس ! مَن يعِشْ يرَ والأيام مقبلة يلوح للمرء في أحداثِها العجبُ!