
يعيش مجلس النواب اليوم أيامه النهائية، لكون الدورة الخامسة الحالية هي الأخيرة، وهى ما ستكون على الأرجح دورة طويلة، حتى يكمل المجلس سنواته الخمس في نهاية العام الحالي.
البرلمان الذي تأسس منذ أكثر من قرن ونصف، بات كل يوم في حالة تراجع مذري، أداء متخبط في الدور الأخير للفصل التشريعي الحالي. إبان عصر مبارك كانت المجالس التشريعية المتتالية تُنتقد بسبب حال الخلل في التوازن مع السلطة التنفيذية، لكن اليوم يبدو أننا في حالة انعدام التوازن أصلا، يكفي الحديث عن سقوط جوانب مهمة في الأداء الرقابي، إضافة بالطبع إلى الشق التشريعي الذي هو محل الحديث هنا، لكون البرلمان المصري كأي برلمان يفترض أن يكون الوسيلة الرئيسة للتداول السلمي للسلطة، ومربت النزاهة والشفافية وحرية الرأي والتعبير، قد افتقد للكثير من تلك الصفات في برلمانات الدول المتمدينة.
مفهوم أن يتعجل البرلمان في عديد الأمور لإكمال أجندته التشريعية قبل أن ينهي أعماله، وهذا الأمر هو ما درج عليه العمل. ففي الفصل التشريعى الأول له (15/2020) كان عدد التشريعيات التى تم سنها في الدورات الخمس لمجلس النواب على الترتيب هي 82، 219، 197، 156، 233. هذا الفصل الثاني الذي لم يكتمل بعد 20/ 2025 سن خلال دوراته الخمس 146، 184، 188، 175 قانون، ولا زال الرقم الأخير يتزايد قبل فض الدورة وإنهاء أعمال المجلس برمته.
هناك ملفات أدارها البرلمان بكفاءة يحسد عليها، خذ على سبيل المثال قانون المسئولية الطبية، فرغم كونه جاء متأخرا لسنوات كثيرة، مقارنة ببلدان نامة مجاورة كالأردن، إلا أنه نجح في تمرير القانون بشكل مرضي لطرف مهم من أصحاب المصلحة وهم الأطباء، الذين مثلتهم النقابة العامة للأطباء، وسمع أصوتها، بعدما كانت مواد مشروع القانون مخيفة لهؤلاء، وتزيد سبب من أسباب فرارهم إلى خارج مصر.
لكن مقابل ذلك كان هناك تسرع وانتكاسات عديدة، وإهمال للحوار الوطني ومخرجاته، وعديد الأمور التي حملت حوارا مجتمعيا، وهي الكلمة التي باتت مع الأسف سيئة السمعة، لكونها تأتي بعكس الإرادة الشعبية في الكثير من الأحيان.
كيفية صناعة التشريع هذا الأمر ربما يحيلنا إلى مسألة كيف تتم صناعة التشريع في مصر؟ رسميا، يقر الدستور بحق الرئيس والحكومة وأعضاء البرلمان في التقدم بتشريعات أمام البرلمان، ويعتبر الكم الغالب من التشريعات (كعادة كافة برلمانات العالم) مقترحات آتية من الحكومة، والقليل منها يأتي من النواب ثم الرئيس، وتُهمل الغالبية العظمى من اقتراحات التشريعات حال قدومها من النواب.
ويفترض أن تمر مشروعات الحكومة بقوانين على جهات حكومية ذات ارتباط بالقضاء للنظر في دستوريتها، كما تتدخل جهات أمنية كثيرة للدفع ببعض التشريعات. أما مسألة الحوارات المجتمعية وجلسات الاستماع من أصحاب المصلحة والشخصيات العامة والخبراء والمجتمع المدني، فهي أمور اختيارية لمجلس النواب، يمكن أن يلجأ إليها أو يستبعدها طالما لم ينص على أسماء تلك الجهات وأسماء تلك التشريعات في الدستور. لكن درجت العادة على أن يكون هناك تعاطف ما مع جهات معينة مرتبطة بتوجه الدولة الاقتصادي، وهو ما برز بشكل ملحوظ إبان النصف الثاني من حقبة مبارك تجاه فئة رجال الأعمال، وبعض هؤلاء كانوا من النواب أنفسهم.
يبقى السؤال ماذا حدث خلال تلك الدورة الختامية؟
احتكار وتأميم الفتوى
وظفت الدولة الخلاف الدائم بين وزارة الأوقاف والأزهر في قانون الفتوى، متلكأة بالرغبة في وقف فوضى الفتوى. فكان الهدف نبيل ولكن النوايا تبدو غير طيبة. إذ منح القانون حق وزارة الأوقاف في إصدار الفتاوي جنبا إلى جنب مشيخة الأزهر ودار الإفتاء، وهو أمر يخرق النزاهة واستقلالية الشأن الديني عن الحكومة، صحيح أن الكلمة الأخيرة أقرها القانون للأزهر، لكن موظفى الأوقاف أصبح لهم في النهاية حق الفتاوى الخاصة، وهو أمر يجعل هنا تأكيد على إصرار الحكومة على تأميم الفتوى، كما قامت بالأمس بتأميم الإعلام بهيمنة الشركة المتحدة على عديد القنوات الفضائية المستقلة.
تمسك بإشراف هزلي على الانتخابات
بالانتقال إلى الهيئة الوطنية للانتخابات التي تدير العملية الانتخابية كاملة، فإن الدستور أوقف الإشراف القضائي بمعادلة قاضي على كل صندوق للجهات والهيئات القضائية، وأصبحت (وفق أحد التفسيرات) للهيئات القضائية وحدها إمكانية ذلك. من هنا يرجح أن تقوم السلطة بندب العاملين بهيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية (موظفو السلطة التنفيذية) بالإشراف على الانتخابات القادمة، وهو أسلوب على أي حال يشكل التمسك به خطأ كبيرا، لأنه يفترض أن القضاة وحدهم (حال اعتبار نفر من الناس هؤلاء قضاة) هم مربت النزاهة والشفافية، وما عاداهم هم من المزورين. وقد تبين في الأونة الأخيرة أن بعض القضاة قد وقعوا في أخطاء ارتبط بعضها بجنايات قتل ومخدرات وغيرها. بعبارة أخرى، القضاة بشر وارد أن يخطأوا ووارد أن يصيبوا، وقد لاحظنا المثالب الكثيرة التي شهدتهات العملية الأخيرة لإشراف القضاة على انتخابات الرئاسة 2024.
إرباك مشهد العلاقة بين المالك والمستأجر
أمر ثاني متعلق بتطبيق حكم المحكمة الدستورية الأخير بعدم دستورية العلاقة التعاقدية بين المالك والمستأجر في المساكن والمحال التجارية، وهو الحكم الذي بموجبه يتحتم رفع القيمة الإيجارية لملايين الوحدات المؤجرة، إنصافا لحق المالك في استثمار أملاكه العقارية. في البداية سعت الحكومة إلى أن تركض خلف دعاوى فسخ العقود بين الطرفين بعد فترة قدرتها بخمس سنوات، علاوة على قيامها برفع قيمة الإيجار بين الطرفين. لكن الجدل الكبير بين الناس في المجتمع يبدو أنه -على الأقل حتى الآن- أوقف طموحات الحكومة ضد المستأجرين، لأنها تراجعت إلى خانة تطبيق الحكم فقط، دون تخطى ذلك لطرد المستأجرين.
استمرار انتهاك حقوق المتهمين
مشهد آخر يتعلق بانتهاك حقوق المتهمين في القضايا الجنائية، وهو أن الحكومة دفعت بقانون الإجراءات الجنائية إلى البرلمان الذي غير فيه بعض الأمور، لكنه أبقى على أمور كثيرة عُدت انتهاكات لحقوق المتهمين في محاكمات عادلة وشفافة، لكونها أمعنت في بقاء عقوبة الحبس الاحتياطي الذي كان الغرض الرئيس من وضع القانون الجديد، ولم تلغ فكرة تدوير المتهمين بعد الإفراج عنهم، ولم تتوقف عن بقاء عقوبة حجز أموال المفرج عنهم في البنوك أو تلغى منعهم من السفر. إضافة إلى كل ما سبق فقد وسع القانون من منح سلطة الاستجواب لمأموري الضبط على حساب النيابة، كما منح النيابة نفسها سلطات قضائية، وغل يد المحامين في الدفاع عن الناس لصالح النيابة. كل ذلك أدى إلى التضييق على الحقوق التي كفلها الدستور، وقلل بشكل كبير من الضمانات.
تزوير إرادة الناخبين
انتهى المشهد اليوم بقرب سن تشريع لتبرير تزوير إرادة الناخبين، بأن أبقى تعديل قانون مجلس النواب وكذا الشيوخ على أسلوب القوائم المطلقة في الانتخابات، بأن جعل القائمة (التي تدعمها السلطة) والحاصلة على 51% من الأصوات تفوز بنسبة 100% من المقاعد، حيث نقل أصوات 49% لمن صوتوا لغيرها إليها!! هذا النظام البائس ترفضه النظم الانتخابية حول العالم، كما تبين -أنه رغم سهولة تطبيقه- أن غالبية الناس ترفضه، وهو ما تبين في نسبة إبطال الصوت في الانتخابات البرلمانية السابقة، والتي وصلت لحد غير مسبوق وهو 24%!! السلطة تتلكأ للتمسك بهذا النظام الفاسد بالكوتات الاجتماعية، وهي الكوتات التي تجعل من البرلمان مؤسسة اجتماعية لا سياسية. هذا النظام تبين أنه يخلق برلمان هش وطيع، وهو هدف السلطة من البقاء على هذا النظام، ومن ثم تصبح الكوتات مجرد حجة لبقاء هذا النظام، بدليل أن مجلس الشيوخ يأخذ بذلك النظام عبر تشريع السلطة نفس النظام الانتخابي له، رغم أن هذا المجلس يخلو دستوريا من الكوتات.
وهكذا يتبين أن هناك مشكلات كثيرة في الأداء التشريعي، وهي على الأرجح مشكلات ستبقى خلال الفصل التشريعي القادم، لكون طريقة انتخاب أعضاء البرلمان لم تتغير، وهو ما يخلق برلمانا طيعا، يأتمر بمن هم خارجه.