حقوق وحرياتمقالات وآراء

ماهر المذيوب يروي تفاصيل “الكونفا الرئاسية” إلى برج الرومي: تعذيب ممنهج، صمود الأحرار، ودماء المكي على خدّ الجلاد

كشف النائب السابق في البرلمان التونسي وعضو الأمانة العامة للاتحاد البرلماني الدولي، ماهر المذيوب، عن تفاصيل مروعة عاشها في أكتوبر 1991، خلال ترحيله مع معتقلين سياسيين وأمنيين إلى سجن برج الرومي بمحافظة بنزرت، في ما أسماه “الكونفا الرئاسية”، والتي تمثل واحدة من أسوأ فصول انتهاكات حقوق الإنسان في تاريخ تونس الحديث. في شهادة مؤثرة هزّت وجدان كل من قرأها.

وتحدث المذيوب في شهادته عن رحلة اعتقال تعسفي وتعذيب جسدي ونفسي ممنهج طاله وزملاءه من مختلف المشارب، إثر اتهامهم بالتآمر على أمن الدولة، على خلفية نشاطهم الطلابي أو توجهاتهم السياسية أو ارتباطاتهم الفكرية.

رحلة في الجحيم: من “9 أفريل” إلى “برج الرومي”

وصف المذيوب تفاصيل لحظات الاعتقال والترحيل من سجن 9 أفريل إلى سجن برج الرومي قائلًا:

“الطريق من العاصمة إلى بنزرت لا يتجاوز ساعة، لكن رحلتنا فجر ذلك اليوم استغرقت ساعات، كانت فيها الأصفاد تشق اللحم، والحرارة تلتهم الأنفاس داخل ما أسميته لاحقًا ‘سيارات الموت’ الخاصة بالسجون التونسية.”

وأضاف:

“كنا نتنقل من سجن إلى سجن كالدواجن داخل فرن، مكبلين ومهانون، في موكب رهيب يليق برؤساء وليس بمعتقلين بلا محاكمة… عشرات السيارات، طائرة عمودية، ومنبهات تصم الآذان، في مشهد لا تُخطئه الذاكرة.”

الاستقبال: سياط، كابلات كهرباء، وإهانة للكرامة

عند الوصول إلى بوابة سجن برج الرومي، صُدم المعتقلون بصفوف طويلة من عناصر الأمن تقف على جانبي الممر، تحمل العصي والهراوات والكابلات الكهربائية.

يقول المذيوب:

“انهالوا علينا ضربًا ونحن مكبلون، حفاة، مرعوبون. كانت هذه هي وجبة الاستقبال. لم يكن ما عشناه إنسانيًا بأي شكل، بل كان طقسًا للتنكيل والإذلال الممنهج.”

دماء عبد اللطيف المكي على خدّه… ورفض الاعتراف المهين

في إحدى أقسى لحظات تلك الليلة، حاول مدير السجن حينها، محمد الزغلامي، إرغام الدكتور عبد اللطيف المكي – الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للطلبة – على الاعتراف أن تهمته “سرقة دجاجة”، وليس انتماءً سياسيًا.

“أمام صموده، انهال عليه الزغلامي ضربًا حتى سالت دماؤه على وجهه، لكنه لم ينطق بها، أبدًا، مطلقًا… وكان هذا درسًا في الشرف والكرامة والصلابة”، قال المذيوب.

بطولات في الظل: صمود العسكريين والأمنيين

شهادة المذيوب لم تكتف بسرد تفاصيل العنف، بل سلطت الضوء أيضًا على بطولات غير معروفة لرجال من الجيش والأمن وقفوا في وجه التعذيب والاستبداد، وذكر منهم بالاسم:

  • الكولونيل البزراتي
  • الكولونيل القلال

“هؤلاء حيروا جلاديهم بثباتهم، وكانوا أيقونات وطنية ناصعة في زمن الظلمة… هم وأمثالهم يحتاجون إلى توثيق وتكريم حقيقيين.”

من الظلام إلى النور: مأساة لم تُكتب بعد

أكد المذيوب في ختام شهادته أن ما عاشه المعتقلون في التسعينيات والألفينيات لم يُكتب بعد، ولم يُعرض في كتب التاريخ، رغم أنه يمثل صفحة سوداء يجب كشفها.

“ما عانيناه نحن، وما عاناه أبناء المؤسسة العسكرية والمدنية، هو ملف وطني وإنساني، لا يسقط بالتقادم… فكل يوم يُعتقل فيه بريء اليوم، هو تكرار لجريمة الأمس.”

رسالة إلى الضمير الإنساني

طالب المذيوب منظمات حقوق الإنسان، والمؤرخين، والقوى السياسية التونسية والدولية، بعدم ترك هذه الانتهاكات طيّ النسيان، بل توثيقها ومحاسبة المسؤولين عنها، وجعلها جزءًا من سردية تونس في سعيها نحو العدالة الانتقالية الحقيقية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى