
الطريق من قلب العاصمة تونس إلى محافظة بنزرت، عروس الشمال التونسي، لا تتجاوز 60 كيلومترًا، وتستغرق بالسيارة المدنية ساعة زمن. لكنها، فجر أحد أيام شهر أكتوبر/تشرين الأول 1991، استغرقت ساعات، وكانت أطول وأقسى وأفظع رحلة في حياتي، من معتقل 9 أفريل بباب سعدون إلى معتقل برج الرومي في أعلى هضبة ببنزرت.
بعد التعذيب الفظيع المباشر في أقبية وزارة الداخلية، ثم الإيداع في “السيلونات” طيلة صيف تونس الساخن جدًا عام 1991، فوجئنا – نحن المشتبه بنا في “قضية التآمر على أمن الدولة 1991” – بقدوم أعداد لا تُحصى من قيادات وأفراد طلائع السجون ذات صباح إلى الغرفة 9 بمعتقل 9 أفريل. دخلوا علينا بعنف ووحشية لم أرَ مثلها في حياتي، وهم يصيحون: “دبشك ولَبّرا!”، أمام ذهول وصدمة وفجعة أغلب النزلاء الذين لم ينتهوا من أداء صلاة الصبح إلا قبيل لحظات…إنها الصدمة والرعب في انتظار المجهول الكبير.
- لا أعرف كيف لملمت نفسي قبل بقية أغراضي، وانحشرت بين الجموع التي كانت تنهال عليها السياط والهراوات والسبّ واللعن بكل اللغات… في اتجاه ركوب “سيارات الموت”.
- صُنعت السيارة لتقليص المسافات وقضاء الحاجات وتعزيز الشعور بالراحة والسعادة، لكن باستثناء حقيقي – يبدو أنه لا يزال يعمل “بكفاءة” مريعة وفظيعة ووحشية – هي سيارات السجون التونسية، وقد ذقت مرارتها وعشت ويلاتها وتجرّعت عذاباتها طيلة تنقلاتي بين سجون تونس من 1991 إلى 1994: من مرناق عند الإيقاف لدى أمن الدولة (وهي جريمة لم تُسجَّل من قبل)، إلى سجون 9 أفريل، والرومي، و زغوان وصواف بمحافظة القيروان…
والحقيقة أن مأساة نقل المعتقلين في سيارات السجون والإصلاح عصية على الوصف. لكن لتقريب الصورة، يمكن أن نقول بدقة: تخيّل نفسك دجاجة مصلية تحت نار حامية، ويدك مقيّدة، إمّا فرديًا أو ملتصقًا بأخيك، فتصبح رحلة العذاب مضاعفة، خاصة ببعد المسافة من نقطة “أ” إلى “ب” بين السجون التونسية. - لنكن أكثر دقة: فرحلة العذاب في منتصف أكتوبر 1991
من سجن 9 أفريل إلى برج الرومي، أو “الكونفا” لمجموعة التآمر على أمن الدولة، كانت “كونفا رئاسية” بكل ما تحمله الكلمة من معنى: موكب مهيب من عشرات السيارات، وشتى أنواع فرق السجون والشرطة والحرس، أصوات منبّهات مزعجة ومخيفة، أصوات طلائع الموكب المرعبة، وطائرة عمودية تؤمّن الموكب
من فوق، في “كونفا” استثنائية لم تعرفها تونس من قبل ولن تعرفها في تاريخ معتقلاتها السوداء. - البدايات والنهايات، هي آخر ما يتبقى حين ننسى كل شيء…في الحب، في العلاقات، في الشراكات، وفي دخول المعتقلات حتى يأذن الله بالخروج منها. فالسجين السياسي يدخل المعتقل بقرار، ويغادره بقرار… أما الاتهامات والمحاكمات والأحكام، فلا تعدو أن تكون مساحيق تجميل بشعة لأعمال ظالمة وفظيعة ولا إنسانية.
والحقيقة، أنه بقدر ما كنا نسمع ويُحكى لنا عن فظائع، ما يحدث داخل برج الرومي، فإن مخيّلتنا الإنسانية كانت عاجزة عن تصور ما يمكن أن يفعله الإنسان بأخيه الإنسان داخله، وصلنا إلى بوابة معتقل برج الرومي، وبدأنا في النزول مقيّدين بالأصفاد، لنُفاجأ بأعوانٍ – أو بالأحرى وحوشٍ في زيّ بشري – مصطفّين على اليمين والشمال…
و”عينيك ما تشوف إلّا النور”، إذ انهالت علينا شتى أنواع العصي وكابلات الكهرباء والكفوف الغليظة الكريهة طيلة الممر المظلم الطويل من باب المعتقل إلى منتصف الساحة الأولى الخارجية.
- كنت أعتقد أن ويلات العذاب قد انتهت، خاصة حين رأينا أمامنا ضبّاطًا برتب “نجومية” وأشخاصًا بلباس مدني، لكن الحقيقة أنها كانت مجرد بداية وهمية…
فاللحظات القادمة جسّدت أبشع وأفظع وأقسى ما عشته. في حياتي، جديرة بأفلام رعب تحوز أعلى الجوائز السينمائية، وإحدى أبشع تجليات الاستبداد الأسود، حيث تفنّن مدير المعتقل البشع – محمد الزغلامي، الذي مات لاحقًا داخله – في تعذيب خيرة أبناء تونس من العسكريين والأمنيين والمدنيين.
لن أفصّل في تلك اللحظات التي استمرت حتى الظهر، لكن يكفيني أن أذكر إصرار ذلك الذئب البشري، الزغلامي، في محاولته البائسة واليائسة للمساس بمعنويات الدكتور عبد اللطيف المكي وجميع القادمين، حيث كان يُصرّ أن يردّد كل معتقل جديد أن تهمته “سرقة دجاجة” لا انتماء ولا سياسة…
وأمام ثبات الدكتور عبد اللطيف المكي – الأمين العام للاتحاد العام التونسي للطلبة آنذاك – فقد انهال عليه ضربًا حتى سالت دماؤه من وجهه… لكنه لم يقلها أبدًا، ومطلقًا.
- بعد “وجبة الاستقبال” الساخنة والمرعبة والفظيعة، ظننا
أن الأمر قد انتهى، لكن الزغلامي أصرّ على مرافقتنا مع الطلائع المرعبة، بينما كنا جاثمين على ركبنا، وأيدينا مرفوعة، والسباب واللعنات تلاحقنا في هذه الرحلة الفظيعة على أحجار معتقل برج الرومي، من مدخله إلى أخفض غرفة فيه… تخيّل يا مسلم. - الحقيقة أن فظائع الاعتقال التعسفي والتعذيب القاسي والرهيب، وحكايات المعتقلات التونسية التي لم يعرفها التوانسة بعد، خلال عقد التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، طالت مدنيين وعسكريين وأمنيين تونسيين أحرارًا وشرفاء.
وأكاد أجزم أن بطولات الصمود لهؤلاء، وبخاصة الملف الحارق والخفي وغير المكتوب لأبناء المؤسسة العسكرية والأمنية، تحتوي صفحات ناصعة من الوطنية وأعلى درجات الثبات والشرف و الصمود في زمن المحنة.
وكم أقف بأسمى معاني التقدير والاحترام لصمود الكولونيل البزراتي والكولونيل القلال، الذين “دوّخوا وحيّروا المجرم الزغلامي وأعوانه الأوباش”. - يمكن القول إن معتقلي “قضية التآمر على أمن الدولة”
في بداية الستينات عاشوا أفظع أشكال التنكيل في معتقلات تحت الأرض وظلام دامس بسجن الناظور ببنزرت، ووقف أبطال التسعينات أمام آلة التعذيب الوحشية بكل أنفة وعزّ وصلابة.
ويبدو أن مأساة “التآمر على أمن الدولة” في تونس اليوم مضاعفة، حيث تجتمع فصولها بين العبث والجنون، وهي أفظع درجات خروج الإنسان من إنسانيته.