
أكتب اليوم لا بوصفى شاهدًا على التحولات السياسية فى مصر، بل كواحد من أولئك الذين نحتوا اسمهم فى صخور العمل العام دون وساطة ولا مواءمات.
أكتب وفي قلبي سؤال صارخ لا يكف عن طرق وجداني: ما الذي جرى لأحزابنا؟ لماذا تحوّلت من مدارس تُخرّج القادة، إلى واجهات صامتة، تتزيّن بالديمقراطية ولا تمارسها؟
لقد انضممت لحزب الوفد وأنا في ربيع العمر، مؤمنًا بأن السياسة ليست مهنة ولا تذكرة للبرلمان، بل التزام أخلاقي ورؤية للتغيير.
لكن اليوم، ومع كل ما أراه، أجد نفسي مضطرًا لأن أقولها بصوت عالٍ: هناك خلل جوهري أصاب بنية العمل الحزبي في مصر، وخاصة داخل الأحزاب التاريخية التي كان يُفترض أن تكون حاضنة للشباب، لا ساحة تُقصيهم فيها الولاءات وتُختطف فيها الكفاءات.
كم هو محزن أن تصبح معايير الترشيح داخل بعض الأحزاب، وفي مقدمتها الوفد، أقرب إلى صفقات مغلقة، تُحسم في دوائر غير معلنة، لا أحد يعرف من بيده مفاتيح القرار، ومن يُدير الملفات، ومن يُقصي ومن يُقرب.
تلك الممارسات لم تقتل فقط روح التنافس الديمقراطي داخل الحزب، بل دفعت خيرة أبنائه إلى الصمت أو الابتعاد أو الاصطفاف في الهامش، لأن الساحة لم تعد ترحب بصوت مختلف، أو عقل نقدي، أو شاب لديه مشروع.
يتحدثون عن التمكين، ويرددونه كأنهم يصدقونه، بينما الواقع يقول إن تمكين الشباب لم يعد أكثر من لافتة لزينة الخطابات.
نُسأل: أين القيادات الجديدة؟ فأُجيبهم: ابحثوا عنها في قوائم الانتظار الطويلة خلف أبواب مغلقة، حيث تُصنع الترشيحات بمعايير لا تُعلن، ويُقصى المستقلون في الفكر لصالح من يتقنون فنون الترضية.
أين المعارضة الحقيقية؟ بل، دعوني أطرح السؤال بشكل أكثر دقة: هل يُراد لها أن توجد؟ لقد كانت المعارضة في مصر يومًا ما ضميرًا للوطن، تطرح البدائل، تُمارس الرقابة، تُزعج السلطة لا تُهادنها.
واليوم، نرى من يسمون أنفسهم بالمعارضة يختفون من المشهد، أو يذوبون فيه، دون موقف من العدالة الاجتماعية، دون كلمة عن الحريات، ودون أن يسائلوا حتى نوابهم عن أداء باهت داخل البرلمان لا يشبه بأي حال من الأحوال حجم التطلعات.
ما الذي حدث لحزب الوفد؟ هذا الحزب الذي كنا نظنه حصنًا للحرية ومدرسة للمعارضة الوطنية النظيفة؟ هل استُهلكت هويته تحت وطأة التحالفات السياسية؟ أم أنه فقد البوصلة وسط مشهد مرتبك؟ لا أبحث عن إجابات شعاراتية، بل عن مراجعة صريحة تعيد لهذا الكيان تاريخه، وتضعه مجددًا في قلب المعادلة الوطنية، لا في هامشها الخجول.
أنا لا أكتب هذا المقال لأشكو أو أعاتب .. بل لأقول: كفى .. كفى صمتًا على تهميش العقول .. كفى مجاملات على حساب المبادئ .. كفى تقبلاً لوضع حزبي خامل لا ينتج قيادات ولا يؤمن بتداول حقيقي للأفكار.
من حقي أن أطالب بقيادة حزبية شفافة، لا تتحرك بإشارات من خارج الأبواب. من واجبي أن أنادي بإحياء العمل التنظيمي الحقيقي، الذي يُسائل ويُحاسب ويُكافئ.
هل هناك حظر غير معلن على صعود الوجوه المستقلة؟ نعم، هناك، لكنه غير مكتوب .. يُمارس بالإيحاء، بالإقصاء الصامت، بالترشيحات المعلبة، وباستخدام الولاء معيارًا وحيدًا، لا الكفاءة، لا الرؤية، ولا التاريخ.
وهذا ما يجب أن يتوقف .. لا يمكن لحزب عريق أن يُدار بهذه الطريقة، ولا يمكن لمستقبل سياسي أن يُبنى على أسس مهتزة.
تراجع الأحزاب إلى صالونات مغلقة وبيانات باهتة هو إعلان استقالة من الشارع، من الناس، من الوطن .. ليس دور الحزب أن يُزيّن المشهد الديمقراطي، بل أن يكون صانعًا له، ناقدًا له، مشاركًا فيه بنديّة.
أين حزب الوفد من معركة الحريات؟ من قضايا العدالة الاجتماعية؟ من القانون؟ من الإعلام؟ من الشارع؟ هل ذاب الحزب حتى صار بلا ملامح؟ وهل ارتضى لنفسه أن يعيش على فتات التمثيل دون تأثير؟
أعرف أن ما أكتبه قد لا يُعجب البعض، لكنه صوت أمين من داخل البيت، لا خارجه .. صوت مخلص لا يحمل أجندة سوى الإصلاح، صوت ينتمي لوطن لا يحتمل أن تكون أحزابه مجرد صدى لا صوت، وديكور لا فاعل، وتاريخ بلا حاضر.
أنا لا أكتب لأُرضي، بل لأُوقظ .. ولا أطلب موقعًا، بل أُطالب بموقف .. هذا المقال ليس بطاقة تعريف، بل صرخة وعي.
فأنا يوسف عبداللطيف، الذي بدأ نضاله في أروقة حزب الوفد، لا أزال مؤمنًا أن هذا الوطن يستحق أحزابًا ترتقي بحلمه، لا تحاصره، وتدفع بشبابه، لا تستهلكهم في الهتاف، وقد آن أوان التغيير، لا على يد العابرين، بل أبناء التجربة، أبناء الفكرة، أبناء الوطن.
إذا كان الوطن للجميع، فلا ينبغي أن تكون الأحزاب للبعض .. وإذا كانت الديمقراطية هي مستقبل هذا البلد، فالبداية الحقيقية لها يجب أن تكون داخل الأحزاب، لا خارجها.