
في مشهدٍ لا يُشبه إلا نفسه، وفي لحظة تختزل حاضر العرب الرسمي، تعرّض وفد وزاري عربي رسمي لموقف لا يمكن وصفه إلا بالإهانة السياسية المتعمدة.
وزراء خارجية من دول كبرى في النظام العربي– مصر، السعودية، الأردن – تحركوا بموكب رسمي إلى مدينة رام الله، في الضفة الغربية المحتلة.
موكب محمّل بلغته الدبلوماسية المعتادة: “التهدئة”، “المسار السياسي”، “دعم السلطة”، وربما رسم ملامح لما بعد الحرب على غزة.
لكن الحدث انقلب على رأسه عند أول حاجز إسرائيلي، حين جاء الرد بفظاظة الاحتلال المعتادة:
“غير مسموح بدخول الوفد”.
“إهانة معلنة لا لبس فيها”
ليس الموقف مجرد خلل تنسيقي. إنه رسالة سياسية مقصودة، فحواها: أن الاحتلال هو من يقرر من يدخل الأراضي الفلسطينية ومتى ولماذا.
وأن العرب، مهما علا منصبهم، ومهما سوّقوا أنفسهم كوسطاء عقلانيين، ليس لهم وزن يُذكر أمام السيادة الإسرائيلية المطلقة.
وأن “التطبيع” لا يصنع شراكة، بل يُكرّس التبعية.
هذا الموقف لم يُذهل المراقبين لأنه غير متوقَّع، بل لأنه حدث رغم أن الوفد جاء من دول لها علاقات معلنة مع “إسرائيل”، بل وتصف نفسها بـ”الفاعلة في المشهد الإقليمي”.
ومن هنا: انظر .. تأمل .. تأكد..
خلف المشهد: قراءة في الرسائل العميقة. ما جرى على أبواب رام الله ليس تفصيلًا عابرًا، بل اختزال لمعادلة جديدة ترسُمها “إسرائيل” عن عمد، تقول فيها:
- الضفة الغربية– بما فيها رام الله
ليست تحت سيطرة فلسطينية حقيقية، بل تحت الاحتلال التام. حتى تحركات الوفود الأجنبية والعربية تمر من خلال قرارات إسرائيلية. - لا دور عربي مسموح به في غزة، لا سياسيًا ولا إنسانيًا، ولا حتى في صياغة “اليوم التالي” للحرب. فالغرف المغلقة، التي تُرسم فيها خرائط المصير، لا يوجد فيها مقعد للعرب.
- إسرائيل ترى أن زمن التأثير العربي قد انتهى، وحلّ مكانه زمن التلقّي والانصياع.
ثم ثم.. ثم تعال: السلطة الفلسطينية: غائبة في أرضها.
السلطة، التي كان يُفترض أن تُستقبل الوفد وتُنسق له، لم تكن في المشهد. لأن المشهد نفسه أظهر بوضوح أنها لا تملك من أمرها شيئًا. فحتى مدينة رام الله– عاصمة السلطة الفعلية– لا تستطيع السلطة أن تستقبل فيها وفدًا عربيًا من دون موافقة المحتل.
لقد وقعت السلطة مرة أخرى في اختبار الشرعية والسيادة، فسقطت أمام الجميع. فأي “سلطة” هذه التي لا تستطيع فتح بوابة لضيوفها؟ وأي “كيان” هذا الذي لا يستطيع ممارسة سيادته على شبر من أرضه؟
ياشعوب أمتنا العربية ..
ياشعوب أمتنا الإسلامية..
“العرب الرسميون: صدمة الواقع المرير”.
عاد الوفد من حيث أتى، بلا استقبال، بلا بيان، بلا إنجاز سياسي. عاد محمّلاً بخيبة أمل عميقة، لا بسبب غطرسة الاحتلال– فهم يعرفونه جيدًا– بل لأنهم ظنوا أن علاقاتهم واتفاقياتهم وصفقاتهم ستحميهم من الإهانة، أو على الأقل ستمنحهم شيئًا من الاعتبار.
لكن الكيان الصهيوني، كعادته، لا يرى في المطبعين شركاء، بل أدوات وظيفية تؤدي دورها حين يُطلب منها فقط. وعندما تُبادر من تلقاء نفسها، تُقابل بالتجاهل أو الازدراء.
لقد كشف هذا الموقف حدود الدور العربي الرسمي في القضية الفلسطينية: دور الممول، لا دور الشريك. دور المراقب، لا دور الفاعل.
ما بعد المشهد الحزين.
ما بعد المشهد الأليم.
“الدلالات السياسية العميقة”
هذه الحادثة لم تكن موجهة فقط إلى الوفد العربي، بل إلى النظام العربي برمّته. إنها صفعة استراتيجية تحمل دلالات خطيرة:
أن خريطة الإقليم تُرسم بدون العرب، لا سياسيًا ولا ميدانيًا.
أن “إسرائيل” واثقة من سطوتها، لدرجة أنها تتجرأ على إهانة الوفود العربية دون خشية من ردود فعل حقيقية.
أن التطبيع لم يشترِ نفوذًا، بل باع الكرامة.
أن الاحتلال بات يُعامل المطبعين كما يُعامل التابعين، لا الشركاء.
“الدرس الأكبر: لا كرامة بلا قوة”
هذا هو مصير من يتنازل عن كرامته الوطنية تحت وهم “السلام” و”الشراكة” و”الوساطة المقبولة”. فالكيان الصهيوني لا يحترم إلا من يُقاومه، ولا يُعير وزنًا إلا للقوي. أما أولئك الذين خلعوا عباءة القوة وارتدوا رداء التبعية، فلا يُعاملهم إلا بالاحتقار.
فهل أدرك الحكام العرب الدرس؟ هل فهموا أن من يفتح أبواب العواصم لتل أبيب، لن يُفتح له حاجز على طريق رام الله؟
“الفلسطيني البسيط.. يرى ويسجّل”
الفلسطيني، الذي ظل في أرضه، يرى وزراء العرب يُمنعون من دخول مدينته، ويرى سلطته مغيبة، ويشاهد العدو يتصرّف وكأن الأرض له وحده. لكنه، رغم كل شيء، يعرف أن الكرامة لا تُؤخذ من الوفود، بل من الصمود والمقاومة.
لقد عادت القافلة الوزارية خالية الوفاض، لكن المشهد سيبقى في الذاكرة: “مشهد الذل، حين وقف عربٌ مطبعون على أبواب وطنٍ محتل، فلم يُؤذن لهم بالدخول”.