
خلّفت الحقبة الأسدية في سورية إرثاً كارثياً لا يقلّ فتكاً عن أسلحة الدمار الشامل، لكنّه أكثر خفاءً وأبعد أثراً. فعلى مدى عقود من الحُكم القمعي، لم تكتفِ السلطة بتفكيك مؤسّسات الدولة، بل أمعنت في تقويض البنى الاجتماعية والأخلاقية التي شكّلت نسيج المجتمع السوري. تماهى النظام في حكمه بين بعثيّة فاشيّة وطائفية متجذّرة، ليصوغ ثقافةً سياسيةً هجينةً قائمةً على الخوف والتبعية والإقصاء. أمّا البنية التحتية، فباتت شاهدةً على الخراب المتراكم، بعد أن طاول الدمار كلّ ما يمكن أن يحمل ملامح الحياة أو يشير إلى إمكانية التعافي السريع.
يبقى السؤال المحوري: كيف يمكن لسورية أن تتجاوز إرثاً بهذا العمق والتشظي؟ لا تقتصر الإجابة على جهة واحدة، بل تتطلّب تضافر جهود ثلاثة أطراف رئيسة. أولاً، السلطة السياسية، التي تقع على عاتقها مسؤولية وضع أطر قانونية ومؤسّساتية تُجرّم تمجيد المرحلة الاستبدادية، وتُرسّخ سردية وطنية جديدة تتجاوز إرث “البعث” والأسدية. ثانياً، النُّخب الفكرية والثقافية، التي يجب أن تُعيد إنتاج المفاهيم والمصطلحات، وتطرح رؤىً بديلةً تعيد الاعتبار للقيم المدنية والعدالة والمساءلة التاريخية.
أمّا الطرف الثالث فهو المجتمع الذي لا غنى عن وعيه وتفاعله، من خلال تبنّي تلك الرؤى الجديدة، والضغط من الأسفل نحو التغيير. لكن ما يُثير القلق أن هذه الأطراف الثلاثة تبدو إمّا عاجزةً عن أداء دورها، وإما غير مدركة تماماً لحجم التحدّي. فغياب الرؤية المشتركة، وتراخي الإرادة السياسية، وتفتت النُّخبة.. كلّها عوامل تُبقي البلاد رهينةً لماضٍ لم يُحاسب بعد.
ظلّت الزبائنية السياسية متجذّرةً في بنية الدولة، وأعادت إنتاج نفسها بعد انهيار نظام الأسد في سياقات جديدة
من بين أكثر الأضرار فتكاً التي خلّفها نظام الأسد، تبرز الطائفية أخطرَ أداةٍ لتفكيك المجتمع السوري، وإعادة تشكيله وفق منطق الولاء لا الانتماء الوطني. فقد عمل النظام، على مدى عقود، في زراعة الشكّ وتعميق الانقسامات بين مكوّنات الشعب السوري، مستخدماً الطائفية أداةً سياسيةً لإدامة حكمه، لا عرَضاً اجتماعياً طارئاً.
وبدلاً من أن يكون التنوّع الطائفي مصدر غنىً ثقافي وتعدّدي، وُظّف لخلق بيئات مغلقة، يغذّيها خطاب الكراهية والسخرية المتبادلة، ما أدّى إلى تقويض أسس التعايش الذي شكّل جوهر الهُويَّة السورية عقوداً طويلة. أحد أخطر تداعيات الهندسة الطائفية التي انتهجها النظام تمثّلت في دفع المكوّن العربي السُّنِّي (شكّل تقليدياً الإطار الأوسع للهُويَّة الوطنية السورية) إلى موقع طائفي ضيّق، لا يُعبّر عن دوره التاريخي في بناء الدولة ولا عن طبيعته المجتمعية غير الطائفية.
فقد ساهمت سياسات الاستقطاب والشيطنة، وتهميش الأغلبية السُّنِّية سياسياً، في خلق شعور جماعي بالعزلة والاغتراب، وهو ما قوّض فكرةَ “الأمّة الجامعة”، التي طالما لعب هذا المكوّن دوراً محورياً في صيانتها. لتجاوز الانقسام الطائفي العميق، لا بد أن تتبنّى السلطة (إن كانت جادّةً في بناء مستقبل وطني جامع) حزمةً من الإجراءات الفعّالة والعاجلة، في مقدمها إطلاق مسار عدالة انتقالية حقيقية لا يكتفي بالشكل أو الاستعراض. يرتكز على إنصاف الضحايا، بغضّ النظر عن انتماءاتهم، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة، بما في ذلك القادة السياسيّين والعسكريّين.
ويتطلّب ذلك إصلاحاً شاملاً لمؤسّسات الدولة، في مقدّمتها النظام القضائي، إلى جانب اعتماد آليات لتعويض المتضرّرين وجبر الضرر بشكل تدريجي وعادل. كما ينبغي العمل على المصالحة المجتمعية من خلال مبادرات تقرّ بالمعاناة المشتركة، وإعادة تأهيل المعتقلين والنازحين، وضمان مشاركتهم الكاملة في الحياة العامّة. من دون هذه الخطوات، ستبقى الطائفية كامنةً في بنية الدولة والمجتمع، تهدّد أيّ محاولة لبناء سلام مستدام.
لن يكون لأيّ إصلاح مؤسّسي أو مصالحة وطنية أثر فعلي، ما لم يقترنا بإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. وهذا يتطلّب إقناع المواطنين الذين عانوا عقوداً من القمع والتهميش، بأن السلطة عازمة فعلياً على ترسيخ أسس العدالة، وسيادة القانون، وضمان الحرّيات السياسية، وتعزيز حقوق الإنسان من دون انتقائية. إن استعادة الشرعية السياسية لا تتحقّق فقط عبر القرارات، بل عبر إشارات واضحة ومتراكمة إلى التزام الدولة بمبادئ المواطنة المتساوية، والانفتاح على التعدّدية، وفتح المجال العام أمام مكوّنات المجتمع كلّها. من دون ذلك، يبقى أي حديث عن “مرحلة جديدة” مجرّد خطاب لا يحظى بالثقة أو القبول.
لم تُبدِ السلطة السورية، حتى اللحظة، ما يكفي من الجدّية أو الاستعداد لإطلاق مسار وطني يُعالج جذور الأزمة الطائفية، بل تدلّ المؤشّرات الراهنة على استمرار النهج ذاته، ما يهدّد بتأجيج الانقسامات، ويُبقي البلاد على حافَة اضطرابات قد يصعب احتواؤها لاحقاً. أمّا النُّخبة الفكرية والسياسية، فقد عجزت، في أحيانٍ كثيرة، عن لعب دورها التاريخي في تقديم خطاب جامع يتجاوز الاستقطابات الهُويَّاتية. وفي بعض الحالات، تورّط بعض رموزها في إعادة إنتاج السرديات الطائفية، إمّا بدافع الخوف أو وسيلةً لتمثيل مصالح فئوية ضيّقة، وهو ما أسهم (عن قصد أو من غير قصد) في ترسيخ منطق الانتقام بدلاً من المصالحة.
وفي المقابل، لا يمكن تجاهل أن جزءاً من الرأي العام تأثّر بالبيئة المشحونة، إذ أصبحت نوازع الثأر والانقسام الطائفي أكثر حضوراً من السعي نحو العدالة والسلم الأهلي. هذه الميول، إن تُركت من دون معالجة، تهدّد بتحوّل النزاع من سياسي إلى مجتمعي، وهو سيناريو قاتم لطالما سعت الشعوب إلى تجنّبه. ثاني الملامح المدمّرة التي ورثها السوريون عن نظام الحكم السابق الزبائنية السياسية، بوصفها نمطاً مُمأسساً من العلاقات يقوم على المحسوبية وتوزيع المنافع على أساس الولاء لا الكفاءة. هذا النموذج، المتجذّر في بنية الدولة، لم يختفِ بعد انهيار النظام، بل أعاد إنتاج نفسه في سياقات جديدة، ما يُبرز استمرار عقلية الحُكم القديمة، وإن تغيّر الشكل الظاهري للسلطة.
لا بدّ من تعاضد الأطراف الثلاثة: السلطة، والنُّخبة السياسية والفكرية، وعامّة الشعب، عبر حوار وطني عام، جادّ وشفاف، يشمل جميع مكوّنات المجتمع السوري
تتجلّى الزبائنية اليوم في تعيين شخصيات تفتقر إلى الخبرة أو التأهيل في مواقع حسّاسة، لارتباطها فقط بشبكات الولاء العقدي أو الفصائلي أو العائلي. وهو ما يُعطّل فعّالية المؤسّسات، ويُقوّض فرصَ بناء دولة قائمة على الكفاءة والمساءلة، ويُعمّق فجوةَ الثقة بين المواطن والدولة. الأسوأ أن استمرار هذا النموذج يعيد ترسيخ الفساد الإداري واقعاً طبيعياً، ما يُضعِف أيّ محاولة للتحوّل الديمقراطي الحقيقي. من السمات اللافتة في المرحلة التي أعقبت انهيار منظومة الأسد تفشّي ظاهرة التنافس على المواقع والنفوذ على حساب الكفاءة والاختصاص. وغدا ارتجال القرارات، وتبدّلها السريع من دون إطار مؤسّساتي واضح، هو السمة الغالبة في أداء العديد من الفاعلين الجدد.
تصدر التوجيهات، ثمّ تُلغى أو تُهمّش، وتُطلق الوعود للناس من دون تنفيذ فعلي، ما يُعيد إلى الأذهان مناخ التخبّط واللا مسؤولية الذي ميّز الحُكم السابق. هذا التدهور في الأداء لا يُمكن فصله عن الإرث السياسي لنظام الأسدية، الذي رسّخ عقلية الحكم الشخصي وتقديم الولاء على الكفاءة. لكن الأخطر أن السلطة الجديدة لم تُبدِ حتى الآن أيَّ توجّه جدّي نحو معالجة هذه الظاهرة، بل تبدو في كثير من الحالات وكأنها تعيد إنتاجها، نتيجة تركيزها في إعادة تموضع السلطة، بدلاً من إعادة بناء الدولة. فالفرق شاسع بين مشروع يُبنى على قواعد مؤسّسية ويستهدف إنشاء دولة قانون ومواطنة، وآخر يُكرّس سلطةً مغلقةً تحكم بمنطق الغلبة والانتماء الضيق. الأوّل يفتح الطريق أمام التحوّل الديمقراطي، أمّا الثاني فمآلاته، كما علمتنا التجربة، ليست سوى نسخة جديدة من السلطوية.
يبقى تقصير النُّخب الفكرية والسياسية في مواجهة ظاهرة الزبائنية أحد مظاهر العجز البنيوي في المشهد السوري الراهن. فهذه النُّخب، التي يُفترض أن تضطلع بدور الريادة في تصويب المسار، لم تمارس الضغط الكافي للكشف عن مخاطر استمرار الزبائنية على تماسك الدولة والمجتمع، بل إن غياب خطاب نقدي واضح تجاه هذه الظاهرة يعكس نوعاً من التواطؤ الصامت أو العجز عن مواجهة البنى التقليدية المتجذّرة. الزبائنية، باعتبارها نظاماً غير رسمي لتوزيع الموارد والمناصب، تمثّل تهديداً مباشراً لأيّ مشروع وطني يقوم على أسس الكفاءة والمواطنة المتساوية. ومع استمرارها، تتآكل شرعية الدولة وتترسّخ ديناميات الفساد والانقسام المجتمعي. من هنا، فإن معالجة هذه الظاهرة ليست ترفاً أخلاقياً أو تنظيرياً، بل ضرورةٌ سياسيةٌ ملحّةٌ، تتطلّب حشد الإرادة من النُّخبة والمجتمع على حدّ سواء، قبل أن يتحوّل القصور المؤسّسي مأزقاً يصعب تجاوزه.
على الرغم من مرور سنوات على اندلاع الثورة السورية، لا تزال مظاهر الأزمة الأخلاقية والاجتماعية التي زرعها النظام القديم حاضرةً في تفاصيل الحياة اليومية، ولا سيّما في المدن الكبرى مثل دمشق، إذ بات من المألوف ملاحظة ضعف حسّ المسؤولية العامّة، وغياب النظام في الفضاء العام، من سلوكات المرور العشوائية إلى تراكم الأوساخ في كلّ مكان إلى الانتشار الواسع للخدمات الرديئة بأسعار باهظة، في غياب الرقابة والمحاسبة. تعكس هذه الظواهر مفاعيل عميقة لإرث طويل من التدمير المنهجي لقيم المواطنة والعمل الجماعي، حيث فُرض على المجتمع نمط من البقاء الفردي، يقدّم المصلحة الخاصّة على المصلحة العامّة، في ظلّ انهيار المنظومة التعليمية والتربوية والخدمية عقوداً.
ما يزيد هذا الواقع قتامةً استمرار بعض رموز النظام السابق في الحضور الرمزي، من خلال الأعلام الحمراء واللافتات والدعاية، في الفضاء العام، في غياب مساءلة حقيقية أو محاولة لبناء ذاكرة جماعية جديدة. وبينما كانت الثورة لحظة أمل بإعادة بناء الإنسان السوري، صار مشهد اليوم يعكس كم هو صعبٌ ترميم الذات المجتمعية بعد عقود من القهر والتشويه. وعلى المستوى الثقافي، يبدو أن مساحات التأثير قد انتقلت، في غياب مشروع ثقافي وطني، إلى شخصيات هامشية تستثمر الفضاء الرقمي للمديح أو التجييش، غالباً من دون أيّ التزام بمسؤولية خطابية أو قيمية، ما يكرّس خواءً ثقافياً يعيق التحوّل المنشود.
والأسوأ من ذلك أن بعض هذه الأصوات، ممّن يُقدَّمون على أنهم شعراء أو إعلاميون، باتوا يحظون بحضور طاغٍ في الفضاء العام، لا لشيء إلا لأنهم يُتقنون فنّ الانحياز إلى من يملك النفوذ، ويهاجمون بلا رادع كلّ من يخالفهم أو يعارض من والاهم، ولديهم متابعون ومعجبون في منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. وهذا التحوّل من النقد إلى التكسّب، ومن الثقافة إلى الاصطفاف، يعكس حجم الفراغ القِيَمي الذي أفرزه الانهيار العام في منظومة المعايير.
تقصير النُّخب الفكرية والسياسية في مواجهة الزبائنية أحد مظاهر العجز البنيوي في المشهد السوري الراهن
لم تُظهر السلطة جدّيةً في مواجهة هذه الظواهر السلبية أو في مساءلة المُستغلِّين، الذين يغذّون مناخ الجشع والانتهازية، متجاهلين أن الثورة السورية قامت من أجل الحرية والكرامة والفقراء والمهمّشين من المجتمع. وبالمثل، لم تكن استجابة طبقة المثقّفين وأئمة المساجد على قدر التحدّي؛ إذ انشغل كثيرون منهم بقضايا هامشية لا تتناسب مع حجم الأزمة التي يمرّ بها الشعب، ممّا يعكس ضعفاً في الوعي والمسؤولية تجاه الواجب الوطني في هذه اللحظة الحرجة. لا بدّ من تعاضد الأطراف الثلاثة: السلطة، والنُّخبة السياسية والفكرية، وعامّة الشعب، للخلاص من هذا البلاء العظيم عبر حوار وطني عام، جادّ وشفاف، يشمل جميع مكوّنات المجتمع السوري.
هذا الحوار يجب أن يُفضي إلى عقد اجتماعي جديد، واضح المعالم في الحقوق والواجبات، يُطرَح ضمن مؤتمر وطني يمثل الشرائح المجتمعية كافّة، ويشكّل تتويجاً لمرحلة الوفاق السوري المنشود. نحن اليوم عند مفصل تاريخي حاسم، إمّا أن ننجح في اقتلاع الإرث المدمّر الذي خلّفه نظام من أعتى الأنظمة في تاريخ البشرية، وإما أن نستمرّ في السير على خطاه، متناسين أننا أبناء الثورة وحملة رايتها. وفي حال الخيار الثاني، سيدفع أبناؤنا ثمناً أقسى ممّا دفعه جيلنا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية.