
ثباتك على المبدأ والعمل به ليس علامة على أنك ستحصد نتائج إيجابية، تجلب لك المحبة وتظلل عليك فروع بالراحة، بل قد تكون مبادئك فاضلة وغايتك نبيلة لكن الواقع يرفضهما، ويهاجمك محيطك بلا هوادة، لهدمك وملاحقتك وحصارك إلى أن تعود وتتخلى عن قيمك، وإلا فقدت مكانتك وامتيازاتك، يُخرجونك ولسان حالهم يقول” لنخرجنك من أرضنا أو لتعودن في مِلتنا”.
وقصص الأولين مليئة بالعِبر والعظة لمن تجرأ وخرج عن صفّ القطيع وحمل ما لا يقدر الناس على حمله، وتفوّه بما لا يقدرون عن البوح به، فمنهم من يصمد ويكافح إلى أن تعلو فكرته ومنهم من يُقتل في سبيلها، ومنهم من يتراجع وتعود حياته سيرتها الأولى مرجوّاً بين أهله.” كما قال الله في قصة النبي صالح: “قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا”.!
فلسفة “طز” كانت أسلوب حياة محجوب عبد الدايم في رواية القاهرة الجديدة للأديب العالمي نجيب محفوظ، وهى أنجح أنواع الفلسفات في كثير من الأوساط المنحطة في واقعنا المعاصر، فلسفة مُريحة تجلب على صاحبها الرضا ممن حوله وتغدق عليه العطايا والهبات، فقط عليك أن تمرر ما يُطلب منك وأن تطاطي لكل ريح عاتية لتمر بسلام وتُفتح لك الأبواب، أن تخلع ثوب الكرامة على باب من بيدهم رزقك وترقيتك لتحافظ على وضعك المادي والاجتماعي، وتبعد عنك وجع الدماغ، فلسفة محجوب عبد الدايم ناجحة من منظور المعايير السائدة، ومربحة بمعايير المؤهلات المطلوبة للشخصيات المنخرطة في عالم السياسة والإعلام وغيرهما من المجالات الأخري.
تلك الفلسفة جعلت الصحفي أحمد بدير في الرواية الذي كان يتمنى الوصول إلى مكانة كبيرة لتفانيه مع المعارضة ضد الملك فاروق وحكومة صدقي، يُقرّ في النهاية بأن طز هى الكسبان، وقال للثوري الاشتراكي على طه الذي عاش مُلَاحقا ومات مُفلسا في بدروم وضيع بأن محجوب كان لديه كل للحق حين قال: إن طز هى الكسبان، وحين رآهم يقرأون كتابا يدعو إلى التنوير قال لهم: فوقوا من الوهم” انتوا ما تقدروش حتى تنوروا أوضه” فهم أحمد بدير بيت القصيد في لعبة السطوة والوصول، وصل محجوب الفقير الكحيان إلى منصب مدير مكتب وزير التعليم قاسم بيه، بينما على طه عاش في بدروم متواضع وحوله آلة طباعة ومنشورات اشتراكية وكل فترة يعتقلوه يشبعوه ضربا ثم يعود إلى البدروم كالجثة الهامدة على سرير صغير ومتهالك يلتحف بمنشوراته ويُضمّد بها جراحه.
تقوم فلسفة محجوب عبد الدايم على اللامبالاة وعدم الاكتراث لكل ما يحدث حوله، تسافل حتى تصل، تراجع لتتقدم، استبدل ثوب الفضيلة برائحته المنفّرة، بثوب الرذيلة بمظهره الأنيق ورائحته الجذابة، ليكن لونك في الحوادث ألوان ودينك في المنافع أديان، لا تعبأ بما سيقولونه فذاكرة العوام ثلاثة أيام، الجميع أمام سطوة النفوذ والمال ينخ مثل الجمل الأنُف، إذا قِيد انقاد وإذا أُنيخ على صخرة استناخ، فحين تنتشر الروائح العفنة يفقد الناس القدرة على التمييز وينظرون إلى المسك بقرف واشمئزاز.
فلسفة طز عملية وناجحة من ناحية الأرقام المادية لكنها خسارة لكل القيم الأخلاقية والإنسانية، يرتقى صاحبها إلى ربوة ذات قرار ومعين، لكنه في الحقيقة ساقط في وحل من الطين، الحياة من دونها جحيم يُطاق وبها نعيم لا يُطاق، فلسفة محجوب عبد الدايم أنجح فلسفة تعيش بها وسط عالم بات شعاره: يا توافق يا تنافق يا تغادر البلاد، أو استعد لحرب ضروس لا تقدر على تَحمّلها ولن تحصد منها غير مصمصة الشفايف والطبطبة على الكتف والتخلى ممن حولك.
وأذكر ما قاله لى يوما أحد من يراهم الناس في مكانة كبيرة وحكمة بالغة، كنا نتحدث حول هذا الأمر فقال: المركوب هو اللى عايش دلوقتي يا أستاذ؛ عدى علشان تعيش”!! وهنا اكتشفت سر رفاهيته ومنهج حياته وفلسفة تعامله مع محيطه، محجوب عبد الدايم وفلسفة طز هى المعادل لشخصية محفوظ عجب في رواية دموع صاحبة الجلالة، نفس الفلسفة ونفس الشخصية ربما الفرق بينهما أن محجوبا كان انتهازيا بائسا ومحفوظ عجب كان وصوليا خبيثا، لكن الاثنان خرجا من بكابورت طز هى الكسبان، وليتهما كسبا في النهاية.
وأختم بعبارة خالدة من فيلم الراقصة والطبال، حين قال أحدهم لأحمد زكي الذي كان موهوما بعبقريته الفنية بعد أن تركته نبيلة عبيد الراقصة وارتمت في أحضان المليونير محمد رضا: “فنّ إيه يا عبده احنا في زمن هز الوسط..اللى يهز وسطه هو الكسبان! وفي النهاية وصلت نبيلة عبيد الراقصة إلى القمة بينما فقد أحمد زكي عقله، وبات يتسكع في الشوارع كالمجنون.