مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: عرفت الطريق إلى عرفات ونسيت كيف أعود منه شوقًا

أحجمت كثيرًا عن الكتابة عن تلك اللحظات، ليس عجزًا عن التعبير، ولكن خشية أن تُفسد الكلمات قدسية الذكريات.

كنت أحملها بداخلي كأعظم ما خبأته الأيام لي، فكيف أُفرغ نورها على الورق؟ لكنّها اليوم تطغى، تتدفّق، تصرخ بداخلي، تطالب أن تخرج من ضيق الصدر إلى رحابة المعنى.

ثلاثة أعوام متتالية حججت فيها إلى بيت الله الحرام، أعوام 2016، 2017، و2018، وبين كل عام وآخر، كنت أظن أنّ الهيبة ستخفّ، وأن رهبة الموقف ستتضاءل، لكنّ العكس هو ما حدث، كنت كلّ مرة أذهب أكثر هشاشة، أكثر تصالحًا مع ضعفي، وأكثر رغبةً في التلاشي أمام عظمة المشهد.

يوم التروية .. لا يزال ذلك الاسم يشعل في قلبي رجفة لا تشبه أيّ شيء، هو اليوم الذي تتخلى فيه عن كل ما تظنه جزءًا منك، تتخفف من إرادتك، من خططك، من يقينك الزائف، وتسير في طاعة خالصة، مجرّد عبدٍ يتوق للقاء مولاه.

أن تبيت في منى، وسط ملايين البشر، على الأرض، بلا تكلّف، بلا خصوصية، وأن تفرح بذلك، هو أول الدروس الكبرى التي يتلقاها قلبك قبل جسدك.

ثم يأتي يوم عرفة، حيث تكون الأرض شاهدة، والسماء مفتوحة، والزمان ممتلئ بكل المعاني التي تعجز اللغة عن وصفها.

هناك، في عرفات، لم أكن يوسف، ولم أكن إنسانًا له اسم أو ماضٍ أو حاضر، كنت نداءً، دعاءً، بكاءً يمتد من القلب إلى الله بلا وسيط.

هناك تكسّرت داخلي كبرياءات، سقطت حساباتي مع الحياة، وتركت نفسي لربٍّ يعرفني أكثر مما أعرفها، في مسجد نمرة، تحت شمس حارقة لا تهمّ، وبحر من العيون الباكية، شعرت أن الأرض تبتلع صخري، وتعيد تشكيله لِينًا من رحم المغفرة.

عرفت الطريق إلى عرفات، نعم .. مشيت إليه بقلبٍ يحمل ما لا تحمله الجبال، وصلت وأنا أظن أني سأعود كما أتيت، فإذا بي أذوب هناك، أذوب حتى لا أعرف كيف أجمعني من جديد.

شيء ما في عرفات يعلّقك به إلى الأبد، يسرق جزءًا منك ويتركك في حيرة العودة، لم أنس الطريق، لكني نسيت نفسي هناك .. نسيت كيف يُغادر من ذاب شوقًا، كيف يرجع من لامس لحظةً من نور الغفران.

تركتني عرفات في حالٍ لا يُشفى منها، كلما مرّ عامٌ ازداد الحنين، وكلما كثر البعد اشتدّ الوجع، ما عدت أبحث عن طريق الوصول، بل عن معجزةٍ تعيدني كما كنت في ذلك اليوم، يوم سكنت السماء قلبي، وسجدت روحي دون أن أبرح مكاني.

أما أيام التشريق، فهي معركة بين الثبات والنفور، بين الاستمرارية والارتداد، لم تكن سهلة كما يُظن .. رمي الجمرات في مشعر منى، في زحام لا يُحتمل، هو امتحان صبر وجَلد لا يُمنَح إلا لمن استعدّ له قلبًا قبل أن يُعدّ له بدنه.

أن تسير وسط هذا الجمع، وتعلم أن كل خطوة لك في سجلّ، وأن كل نفس محسوب، يجعلك تعيش أقصى درجات الوعي.

في حج عام 2017، ساقتني الأقدار إلى صديق لم يكن عاديًا، بل كان سندًا أرسله الله في أوج العناء .. حاتم عبدالهادي، السوداني الطيب، كان أخًا لم تلده أمي، وكان عينًا ثالثة ترى حين أعجز، وكتفًا أميل عليه حين أضعف.

في الزحام، في التعب، في الصمت، وفي لحظات الرهبة، كان هو كما لم يكن أحد. اليوم، أكتب اسمه هنا، لأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ولأن صداقته من البركات التي أبى الله أن تمضي بي من الحج دونها.

كلّ حجّة كانت رحلة داخلية أكثر مما كانت سفرًا، في كل عام كنت أخلع قشرة جديدة من أوهامي، وأعود إلى الحياة متقشّف الروح، مشبعًا بالبكاء، خفيفًا من شوائب الدنيا، لم تكن الحجّة وجهة، بل ميلادًا، كنت أظنني أذهب لأداء شعيرة، فإذا بي أعود وكأني عدت من لقاء وجه الله.

أكتب اليوم لأقول شيئًا واحدًا: من لم يحج، لم يعرف وجه الأرض الحقيقي .. لم يختبر كيف يمكن أن تُغسل ذنوبك بالبكاء، وكيف يمكن أن تكون الأرض مزدحمة كأنها لا تتسع لأحد، ثم تشعر رغم ذلك أنها خلقت لك وحدك.

لم يرَ كيف يُولد الإنسان من جديد دون أن يموت، ولم يعرف كيف تصبح النار التي كانت في صدره ماءً في لحظة واحدة على صعيد عرفة.

أكتب لأنّي اشتقت .. اشتقت لرائحة الإحرام، لنقطة الوضوء الأولى، لخطوة الطواف الأولى، لصوت الإمام في نمرة، لذوبان الجسد في جمع من المساكين المتضرعين، لرمية الجمرات التي تشبه رمي كل وجع، لسلام الروح الذي يسبق السلام على البيت.

لو سألني أحد: ما الشيء الذي تغيّرت به بعد الحج؟ سأقول: صرت أكثر يقينًا أن لا شيء يُطهر القلب مثل أن تذوب في مشهد لا ترى فيه نفسك .. في الحج، أنت بلا أنا .. وهذه قمة الحُرية.

هكذا حججت، وهكذا بكيت، وهكذا أشتاق اليوم وأنا أكتب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى