الدكتور أيمن نور يكتب: “بيثم” الذي تنبأ لي بالعيش مظلوماً والموت مظلوماً

بعض الوجوه تمرّ في حياتك مرور سحابة صيف، تُلقي ظلّها وتمضي، لا تترك فيك أثرًا سوى ظلالًا خفيفةً تتلاشى في الزحام. لكنَّ هناك وجوهًا تمرّ كالقدر، وتظلّ رغم قصر العهد، كامنة في ذاكرتك، محفورة في وجدانك، تنبض بالحضور رغم الغياب… تمامًا كما فعل معي بيثم.
لم يكن إلا شابًا عاديًا من محافظة الشرقية، خرج من بين الحاضرين في ندوة سياسية أقمتُها إبان جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة المصرية عام ٢٠١٢.
وقف، وقالها ببساطة تُمزج بين الألم والنبوءة:
“كنت مظلومًا وستظل مظلومًا… عشتَ مظلومًا، وستموت مظلومًا”.
ضحكتُ وقتها لأكسر حدّة العبارة، لكن الضحكة ظلت عالقةً في حلقي، وعبارته حفرت مجرى من الأسى لا يُمحى.
منذ خروجي من السجن عام 2009، بعد أربع سنواتٍ من الاعتقال الجائر، شرعتُ في ما أطلقتُ عليه “حملة طرق الأبواب”، أبحث مع أهل بلدي عن مخرج سياسي من نفق الاستبداد، بعد أن سدّ نظام مبارك كل أبواب التغيير. عرفتُ يقينًا أن الانتخابات في مصر، ما كانت إلا مشهدًا عبثيًا مُعدًّا بإحكام… تمثيلية رديئة، نهايتها مكتوبة مسبقًا، وبطلها الواحد لا يقبل شركاء!
بعد ثورة يناير، بدا الأفق مفتوحًا على أمل التغيير الحقيقي، وصدرت قرارات باسقاط العقوبات السياسية التي كانت ستمنعني من خوض الانتخابات الرئاسية، والتقيتُ بالفريق سامي عنان، بعد تدخل الصديق الحبيب الفنان محمد صبحي.
قال لي عنان بالحرف: “اكتب القرار كما تريد”. فكتبته كما حلمت… ونُشر في الوقائع الرسمية.
ثم، فجأة، جاء الاستبعاد… اسمي على رأس قائمة تضم:
أيمن نور، حازم أبو إسماعيل، خيرت الشاطر، عمر سليمان.
سألتُ المستشار حاتم بجاتو عن السبب، فابتسم وقال:
من أصدر القرار… بالعفو، هو من طلب استبعادك!
في تلك المرحلة العصيبة، حاولتُ أن أداوي الجرح الوطني، فطرحتُ مبادرة بين مرشّحي الإعادة: محمد مرسي وأحمد شفيق، طالبتهما بتقديم ضمانات للثورة قبل أن يُنتخبا، لا أن يطلبا تفويضًا على بياض. لكن الزمن كان أسرع من الطرح، وأبطأ من الوعي.
وسط هذا الاضطراب، وفي الشرقية، ظهر ذلك الوجه الغريب: “بيثم”، الاسم الذي لم أسمعه قبله ولا بعده. قال نبوءته، ومضى كأنّه اختُص برسالة من الغيب. وظللتُ بعدها أبحث عن وجهه، عن صوته، عن تلك النبرة التي تشبه يقين القدر. وأنا اليوم، أكتب هذه الورقة، وأدعو كل من يعرف هذا الشاب أن يدلني عليه… لأقول له: صدقت يا بيثم.
فالظلم في بلدي، بات هو الأصل، والعدل صار الاستثناء… وأقسى أنواع الظلم، أن تراه بعينيك ولا تستطيع أن تزيحه عن طريقك أو طريق الناس. أن تُدفن وأنت تمشي. أن تُغتال دون طلقة، وتُحاكم دون جريمة.
أنا المظلوم باختيار، لا مصادفة. فالظلم، في هذا البلد، لا يأتيك من المجهول. الظلم عندنا مؤسَّس، منظّم، له هوية وراية ومذيعون… يبتسمون وهم يُسقطونك من فوق المنصّة إلى قاع المحاكم، ثم إلى العدم!
قيل إن العدل في الأرض حلم، وإن الله يُمهل الظالم ولا يُهمِل، لكن الحقيقة أن بعض الظلم لا يُمحى من الذاكرة، ولا من السجلات، ولا من الوجدان. يظلّ حاضرًا في النبرة، في الدمعة، في الورق…
كم مرة حملتُ ورقة الإفراج في يدٍ، وقرار الاستبعاد في الأخرى؟ كم مرة صافحتُ من تآمر عليّ، وابتسمت لمن دسّ لي السم في العسل؟ كم مرة صمتُّ لأن الصوت لا يسمعه أحد؟
“بيثم”… لو تقرأ هذه الورقة، لو تسمع هذه الحروف، إنك لم تكن عابر طريق، كنتَ مرآةً لمصيري، وصوتًا لصمتي، ونبوءةً لما كان، وما سيكون.
وسأبقى مظلوماً… لأنني اخترتُ أن لا أكون ظالماً.
“يموت الحق إن سكتَ أصحابه، ويعيش الظلم إذا لم يُقاومه أحد…” — تلك ليست حكمة مجهولة، بل جرحٌ مفتوح في ضمير هذا الوطن.
رابط الفيديو الذي يظهر فيه الشاب “بيثم” وهو يردد هذه الكلمات النبوئية التي لم تغادر وجداني حتى الآن