
تُعدّ المعارضة السياسية في مصر ملفاً شائكاً، يتداخل فيها الحقيقي بالمُصطنع، والجاد بالشكلي، مما يفتح باباً واسعاً للتساؤلات حول الشخصيات التي تتصدر المشهد المعارض، خاصة في مواسم الإنتخابات التي تنعقد في ظل مناخ سياسي مغلق تهيمن عليه أجهزة بعينها.
وقد بدأ الذباب الإليكتروني في نشر إفتراء مفاده أن أحمد الطنطاوي يشبه أيمن نور، في أكثر من موضع.
وبدأت أرى دخان الضلال يتصاعد في الأفق، فعزمت على أن أكتب كلمات تجري كالماء، فتخمد لهيب الزيف وتكشف الحقيقة.
أيمن نور : كان معارض ذو امتداد دولي وتأثير ملموس، وهو مؤسس حزب “الغد”، الذي دخل التاريخ السياسي المصري عندما ترشّح في انتخابات 2005 أمام الرئيس حسني مبارك، في تجربة كانت الأولى من نوعها في ذلك الحين.
وحصل على أكثر من 600 ألف صوت، بحسب الأرقام الرسمية، ودفع الثمن باعتقاله بعدها بأشهر قليلة في قضية اعتبرها المجتمع الدولي (سياسية بحتة).
وبعد خروجه من مصر، واصل نشاطه السياسي من الخارج، وأسس قناة (الشرق) التي تبث من تركيا، وتُعدّ اليوم واحدة من أبرز المنصات الإعلامية المعارضة للنظام المصري، بما تقدّمه من تغطية نقدية وتحقيقات تُزعج السلطة.
كما لا يظلُ (أيمن نور) يُشارك بانتظام في فعاليات سياسية ودولية، يتحدث فيها عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، ما جعله محل مراقبة دائمة من الأجهزة الأمنية المصرية.
أما أحمد الطنطاوي : فهو يمثل المعارضة المُراقبة والمُقيّدة، حيث كان نائب سابق بمجلس النواب (2015–2020)، واكتسب شهرته نتيجة خطاباته النقدية داخل البرلمان، لكنه لم يواجه أي عقوبة مباشرة حينها، على عكس معارضين آخرين، مثل النائب الإعلامي توفيق عكاشة !.
وبعد فترة قصيرة من إقامته في لبنان، عاد إلى مصر عام 2023 معلناً عزمه الترشح للرئاسة، وسط تغطية إعلامية ملفتة، وظهور على شاشات محسوبة على النظام، مما أثار الشكوك حول شرعية معارضته.
ورغم إعلانه الترشح وقتها، فقد فشل أحمد الطنطاوي في جمع العدد المطلوب من التوكيلات الشعبية أو توقيعات نواب البرلمان، ما أثار تساؤلات حول مدى جديته أو دعم الدولة الخفي له لتأدية دور (المعارض المقبول).
كما أنه لم يتعرض للإعتقال الفوري، على عكس العديد من المرشحين أو النشطاء الذين اعتقلوا لمجرد إعلان نيتهم للترشح، وهو ما زاد من الشكوك حول وضعه الخاص.
السبب الحقيقي الإختيار الدولة لـ أحمد الطنطاوي هو إنعدام التهديد :
وفقًا لتقارير من هيومن رايتس ووتش ومركز كارنيجي للشرق الأوسط، فإن الدولة المصرية عادة ما تخلق معارضين شكليين في الإنتخابات لضمان (شرعية شكلية) أمام المجتمع الدولي.
و (أحمد الطنطاوي) لا يملك حزباً فعالاً، ولا كياناً تنظيمياً حقيقياً، ولا يتمتع بأي نفوذ إعلامي خارجي.
ولا يملك تأييداً في مفاصل الدولة، ولا يملك أي تحالفات إقليمية أو دولية.
لذلك :
كان أحمد الطنطاوي من وجهة نظر النظام هو (المعارض المثالي) في عُرف الأجهزة المعنية، يسمحون له بالحركة ضمن حدود، لأنه لا يُمثل خطراً، فكان يصدر ضجيجاً محدوداً لا يهدد، ويمنح المشهد صبغة من التعددية.
ولكن .. لماذا صدّق البعض أن أحمد الطنطاوي معارض حقيقي :
أولاً اليأس الجماهيري :
فبعد سحق كافة رموز المعارضة الجادة في مصر، أمثال : عبد المنعم أبو الفتوح، وهشام جنينة، وأيمن نور نفسه، وغيرهم، ظل الناس يبحثون عن أي نافذة أمل، حتى لو كانت مغشوشة.
ثانياً الإعلام الموجه :
فبعض الجهات الإعلامية (الوسطية) باتت تروّج لـ (أحمد الطنطاوي) باعتباره الخيار الممكن، مما منحه غطاء مصنوع من العبث، لا يستند إلى واقع تنظيمي أو شعبي حقيقي.
ثالثاً استراتيجية السلطة :
النظام يستفيد من وجود (معارضة مُسيطر عليها) ليُقنع الداخل والخارج أن الإنتخابات نزيهة، وتنافسية.
أما عن مسرحية التوكيلات :
فبالرغم من أن (أحمد الطنطاوي) لم يستطع جمع عدد كافٍ من التوكيلات، إلا أنه لم تُطلق عليه حملة تشويه، ولم يُعتقل أو يُتهم بـ (نشر أخبار كاذبة) أو (الإنتماء لتنظيم محظور) كما حدث مع غيره.
بل إن البعض يرى أن فشله وقتها في جمع التوكيلات قد يكون مقصوداً لتخليص النظام من الحرج لاحقاً.
وفي المقابل بعد أن تم السماح لـ أحمد الطنطاوي بالكلام، وبالحركة، كان النظام الحاكم قد سحق مرشحين حقيقيين أمثال أحمد شفيق، وسامي عنان :
الفريق أحمد شفيق، كان رئيس وزراء سابق وقائداً للقوات الجوية، أعلن ترشحه من الإمارات عام 2017، فتم ترحيله قسراً إلى مصر، واختفى أياماً ثم خرج معلناً انسحابه من المشهد.
وتم تشويه صورته إعلامياً بشكل ممنهج، وفتحوا له ملفات قديمة بتهم فساد لم تثبُت في حقه أبداً، ولم يُسمح له حتى بتقديم أوراق الترشح رسمياً.
الفريق سامي عنان، كان رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، وأعلن ترشحه رسمياً في 2018، فتم اعتقاله في اليوم التالي بتهمة (مخالفة القوانين العسكرية) ووُضع تحت الإقامة الجبرية، وتم اعتقال البعض من حملته، مثل المستشار هشام جنينه، وغيره.
ما وراء حبس أحمد الطنطاوي :
إنها هندسة المعارضة في مصر، لمنح الشرعية المصطنعة لشخصيات بعينها، فالحبس تلميع محسوب لا قمع فيه.
لقد استفاد (أحمد الطنطاوي) من قضية (تزوير استمارات التوكيلات) التي كان يُوزّعها على المواطنين، أكثر مما أضرّته :
أولاً التهمة هزيلة وغير سياسية :
لم يُعتقل (أحمد الطنطاوي) بسبب تحريض أو إهانة الرئيس أو الانتماء لجماعة محظورة، كما يحدث مع معارضين حقيقيين، بل كانت التهمة مجرد خرق إداري (طباعة استمارات بدون إذن رسمي) تُهمَةُ لا تُثير النظام لكنها تُكسب (أحمد الطنطاوي) صورة المظلوم.
ثانياً المعاملة الممتازة داخل السجن :
بحسب شهادة (أحمد الطنطاوي) نفسه، وشهادات آخرين مقربين منه، فإنه لم يتعرض لسوء معاملة، وكان في ظروف مريحة نسبياً داخل محبسه، مقارنة بالإنتهاكات الواسعة التي يواجهها معتقلو الرأي الآخرين والأمثلة عديدة.
إلا أنه قد مُنِحَ ورقة (معارض سبق سجنه أواعتقاله) في سجله ليكتسب بها تعاطف الناس.
رابعاً التموضع الإعلامي المحسوب بعد الخروج :
خرج أحمد الطنطاوي ليستكمل مسيرته وكأن شيئاً لم يحدث، بل تلقّى تغطية إعلامية، فيها نبرة (البطل العائد) وهي التغطية التي لا يحلم بها أي معارض حقيقي في مصر، وغالباً ما تُمنع عنهم حتى بعد الإفراج.
فعلى ماذا يراهن النظام إذاً :
النظام أراد أن يصنع البطل، الذي خرج من تجربة اعتقال خفيفة، ليوهم الناس أنه دفع ثمن معارضته، دون أن يشكل خطراً حقيقياً.
أراد النظام أن يقول : انظروا، نحن نسمح حتى للمعارضين بالحديث والترشح، لكن في حدود القانون.
وأراد (أحمد الطنطاوي) أن يخرج بمكسب سياسي مفاده (قد دخلت السجن إذاً أنا مناضل).
لكن الواقع أن اللُعبة مكشوفة جداً، خاصة إذا قورنت بما واجهه معارضون حقيقيون.
إن حبس (أحمد الطنطاوي) لم يكن قمعاً بل (استثمار سياسي) لصنع بطل من ورق، فالنظام الحاكم منحه شهادة نضال، من دون أن يدفع الثمن الحقيقي الذي يدفعه معارضون أقوياء، أو أصحاب تاريخ حقيقي من المواجهة.
والغباء السياسي الحقيقي ليس في من دبّر هذه اللعبة، بل في من صدّقها.
في النهاية :
(أيمن نور) معارض صنعه القمع، وفرض حضوره على النظام الحاكم داخلياً ودولياً، بينما (أحمد الطنطاوي) معارض سمحت له الدولة أن يظهر، لكنها لم تسمح له أن يُنافس بجدية.
والفرق بين الاثنين هو الفرق بين معارضة تُقلق السلطة، وأخرى تُريح السلطة.
إدراك هذا الفارق ضرورة لأي مواطن يسعى لفهم الواقع، لا العيش في وهم (البدائل المعلّبة).
وعلى الله قصد السبيل