
بينما أعلن العالم عجزه عن التحرك لإنقاذ ما تبقى من ركام غزة الجريحة، وبينما اكتفى الحكام بالتضامن الخجول في بيانات لا تكاد تتجاوز حدود قاعات المؤتمرات، وحين كانت الشعوب تراقب بقلوب منكسرة محاولات إنهاء حرب لا تنتهي، ظهرت رياحٌ من بعيد.
رياحٌ ليست محمَّلة ببيانات الإدانة ولا دعوات الاستنكار، بل محمّلة بالأفعال لا بالأقوال، رياحٌ حملها اثنا عشر ناشطًا، جاؤوا من أوروبا ومن العالم العربي، جمعهم حلم صغير محاولين اختراق جدار الصمت، وأن يصلوا إلى غزة، ولو بسفينةٍ صغيرة تجوب الشواطئ وتصارع الأمواج.
سفينة مادلين لم تكن مجرد محاولة لكسر الحصار؛ لقد كانت صفعة مدوّية على وجه أمة بأكملها، سفينة هزَّت بحركتها المتواضعة ثبات العروش، وعرَّت عجز الكبار قبل الصغار.
في زمن كثرت فيه الكلمات وقلّت فيه الأفعال، كانت مادلين فعلًا نادرًا، جريئًا، عاريًا من المجاملات الدبلوماسية الفارغة. صوت النشطاء فوق سطحها كان أعلى من أن يغطيه ضجيج الصمت الرسمي العربي، وأقوى من أن يسكتوه بقرارات المنع والتنديد.
لم يستطع الصهاينة أن يسمعوا صوتهم، ربما لعلمهم بأن الصوت لم يكن مجرد كلمات، بل كان ضميرًا حيًا يجلجل في بحر الصمت، فعندما اقتربت مادلين من غزة، لم يكتفِ الصهاينة بالتشويش أو التحذير عن بُعد، بل قاموا باعتراض السفينة في عرض البحر، زوارقهم الحربية طوقت المركب الصغير كأنهم أمام تهديد وجودي، لا مجرد قارب حمل نشطاء عزل وراية إنسانية.
لم يكتفوا بالاعتراض، بل صعدوا إلى السفينة، وقاموا باعتقال النشطاء الإثني عشر، واقتيادهم بالقوة إلى موانئ الاحتلال. التحقيقات معهم كانت أشبه بمحاولة يائسة لإخضاع الأصوات الحرة، ولكن ماذا يمكن أن يُنتزع من أصحاب الضمائر سوى المزيد من الإصرار؟
سفينة صغيرة، تحاصر أسطولًا من الخوف. أصوات هادئة، تهزم صخب السلاح. وموقف نبيل، يصفع وجوه من اعتادوا طأطأة الرؤوس. ليست مادلين مجرد سفينة، لكنها كانت صرخة.
صرخة خرجت من عرض البحر، هزَّت الضمائر الغارقة في سباتها الطويل. صرخة أكدت للعالم بأن غزة ليست وحدها، وفلسطين ليست قضية منسية إلا في عقول المنهزمين.
قد يحاولون كسر الإرادة، لكن الفكرة أبحرت ولن تتوقف. الفكرة التي تقول إن الحصار مهما اشتد، لا يغلق بوابة الحلم، وإن الظلم مهما طال، لا يكسر إرادة الأحرار.
فمتى تتحرك الأمة من سباتها؟ متى تتحول بيانات الشجب إلى قوافل أمل؟ متى يكسر الصمت… بصوت الفعل؟ إن كانت مادلين قد صرخت بضميرها وسط بحرٍ من الجبناء، فمتى يعلو صوتنا؟ ومتى نملأ البحر بسفنٍ لا حصر لها؟ سفنٍ لا تعبأ بتهديد، ولا تتراجع أمام بارود، ولا تهتز أمام جدار من الخوف.
فلتكن مادلين البداية… ولتعلم الأمة أن الشعوب، لا العروش، هي التي تكتب التاريخ. وأن غزة، مهما خانها القريب قبل العدو، لا زالت تملك في عرض هذا العالم قلوبًا حية.. تعرف الطريق.