
في مثل هذا اليوم، منذ سبع سنوات، انطفأ في قلبي ضوءٌ لم يعد له بديل، في التاسع من يونيو، الموافق لـ أربعةٍ وعشرين من رمضان عام 1439، جاءتني صاعقة لم أكن أتخيل في أقسى كوابيسي أنها ستضرب بهذا التوقيت، بهذه الطريقة، وبهذا العمق.
كنت خارج البلاد، أعد العدة للعودة في أول أيام عيد الفطر المبارك، أمني النفس بلقيا أمي، بعناقها، بضحكتها الخفيفة، بصوتها وهي تقول لي “وحشتني يا حبيبي” .. لكن القدر لم ينتظر.
جاءني الخبر كضربة برقٍ شقت صدري نصفين .. ماتت أمي .. ماتت ولم أودعها .. ماتت ودُفنت دون أن أقبل جبينها للمرة الأخيرة.
لم تكن مجرد أم، كانت روحي حين تتعب روحي، وكانت ضحكتي حين تكتم الحياة ضحكتي، وكانت وطنًا في وجه الغربة التي ابتلعتني في تلك اللحظة.
أتذكر يومها كل شيء كأن الزمن توقّف؛ الهواء كان ثقيلاً كالرصاص، والدم في عروقي كأنه تجمد، والمكان من حولي أصبح فجأة خاليًا من كل شيء إلا الفراغ والصمت والندم.
هل تصدقون أنني سمعت الخبر ولم أصدّق؟ أعدت المكالمة مرارًا، انتظرت أن يقول لي أحدهم “آسفين، كان خطأ” .. لكنه لم يكن خطأ .. كان قدرًا لا رجعة فيه.
أكتب اليوم لا لأحكي عن موت أمي فقط، بل عن موتي معها، عن فقدٍ لا يرممه الزمن، عن غيابٍ لا يُعوَّض، عن فراغٍ لا يُملأ.
كنت دائمًا أظن أني أدرك قيمة أمي، وأنني أعلم كم كانت تحبني، وكم كنت أحبها .. لكن الحقيقة أن الإنسان لا يعرف المعنى الحقيقي للحرمان إلا بعد الفقد.
كنت أسمع هذه الجملة مرارًا وأظنها مجرد مبالغة، لكنها الآن صارت حياتي، صارت واقعي اليومي، صار الغياب هو المألوف، والحنين هو اللغة الوحيدة التي أتقنها.
سبع سنوات مرّت، ولا تزال تفاصيل الخبر، وصوت الهاتف، والانهيار في مكاني، وتلك الدقائق التي شعرت فيها أنني لم أعد إنسانًا بل بقايا رجل، محفورة في أعماقي لا تزول.
لست ممن يستسلمون بسهولة، لكن فقد أمي كسرني، ولا أخجل من الاعتراف بذلك .. كيف لا، وهي من صنعت مني رجلاً؟
كيف لا، وهي من وقفت خلف كل نجاح، وكل انتصار، وكل مرة وقعت فيها ثم وقفت من جديد؟ كانت السند الحقيقي، الحضن الوحيد الذي لا يُسأل فيه المرء عن خطاياه، ولا يُحاسب على ضعفه، ولا يُرفض فيه بكاؤه.
ورغم علمي بحبها العظيم لي، وإيماني بأنها كانت تدعو لي حتى وهي على فراش الرحيل، ينهشني شعورٌ قاسٍ بأنني لم أكن قريبًا منها بما يكفي.
كنت في سباق دائم مع الحياة، أبحث عن الاستقرار، عن الطموح، عن الذات .. ولم أدر أن الذات الحقيقية كانت هناك، في بيتنا، في عينيها، في دعائها، في “خد بالك من نفسك” التي كانت تقولها بنصف ابتسامة، تحمل نصف الكون في معناها.
لم أودعها، وهذا الندم لا يموت، عُدتُ إلى الوطن يوم العيد، لا فرح في وجهي، لا زينة في قلبي .. عدتُ إلى بيتٍ بلا أم، إلى عيدٍ بلا روح، إلى مقبرةٍ زرتها كما يزور الغريب أطلال مدينةٍ كانت مأهولة بالحب .. قبّلت ترابها، بكيت عند قبرها كمن يبحث عن صدر أمّه في الحجر، لكن لا ردّ، لا صوت، لا حضن، لا شيء.
واليوم، أكتب لأقول نحن لا نعرف قيمة الأب والأم إلا حين يصير وجودهم ذكرى .. حين تشتاق لصوت أبيك فلا تجده، ولضحكة أمك فلا تسمعها، ولصراخهم ووصاياهم ونصائحهم واهتمامهم، فلا يأتيك منهم شيء سوى الصمت.
عرفتُ اليوم أني يتيمٌ حقًا، ليس لأنني فقدت الأب والأم فقط، بل لأن العالم بدونهم بات أقل دفئًا، أقل عدلاً، أقل حبًّا.
كنت أعلم أنني محبوب، مدلل، ابنٌ يُفتخر به، لكنني لم أكن أعلم أن كل هذا الحب، كل هذا السند، يمكن أن يُنتزع من حياتي في لحظة واحدة، دون سابق إنذار.
سبع سنوات وأنا أتعلم من هذا الألم، أن الحب لا ينتظر، أن الوقت لا يؤجل اللقاء، وأن من تحبهم قل لهم دائمًا ما يجب أن يُقال، لأنك لا تعلم متى يغيبون بلا وداع، لا تؤجل كلمة “بحبك“، لا تؤجل زيارة، لا تؤجل حضنًا.
في هذا اليوم، لا أملك إلا الدعاء، ولا أملك إلا قلمي، أكتب به كمن يحفر في جدار الغياب بابًا صغيرًا نحو الذاكرة.
سلامٌ عليكِ يا أمي في عليائك، وسلامٌ عليك يا أبي الذي لم تطل غيبته عنكِ، أعيش يتيمًا .. لا لشيء، سوى لأنكما لم تعودا هنا.