حج صامت ودموع مكبوتة .. الأويغور يشقون طريقهم إلى مكة سراً

بين جدران الرقابة الحديدية وشبكات المراقبة الذكية، يتحرك حلم فريضة الحج عند مسلمي الأويغور كجمرٍ تحت الرماد، لا يُطفأ ولا يُرى.
في الصين، أن تكون مسلمًا يعني أن تُراقَب، وأن تحلم بالحج يعني أن تُجرَّم .. ومع ذلك، كل عام، يعبر المئات من الأويغور الحدود بصمت، يتركون خلفهم جوازات حُجبت، وعائلات مهددة، وأجهزة تتعقب أنفاسهم، ويتجهون نحو الكعبة، حيث لا سلطة تعلو على الله.
موقع “أخبار الغد“، يغوص في عمق المعاناة السرية، ويكشف الستار عن واحدة من أكثر الرحلات الدينية مخاطرة في القرن الحادي والعشرين، ويفتح ملف شائك، ملتهب، لا يُفتح بسهولة .. هذا هو “حج بلا حدود”: حين يتحول الإيمان إلى تحدٍّ ضد القمع.
كيف يتحايل هؤلاء على الجوازات الممنوعة؟ من يساعدهم؟ ما حجم التضحية التي يدفعونها من أجل أداء ركن الإسلام الخامس؟
شهادات حية، وقصص مذهلة، وآراء صادمة تكشف حجم الكارثة الإنسانية التي تُرتكب في صمت باسم “الأمن القومي”.
إنها ليست مجرد رحلة إلى مكة، بل مقاومة روحية، وحرب خفية يخوضها الأويغور لأجل الإيمان، لا لأجل السياسة.
كارثة صامتة في الحرمين: حج بلا حدود.. كيف يحج مسلمو الأويغور في الخفاء؟
في ظل مراقبة مشددة وحصار ثقافي، يتخذ إصرار مسلمي الأويغور على أداء فريضة الحج هيئة ملحمة سرية.
بين حدود الصين ومحطات في آسيا الوسطى، تشكل هذه الرحلة جسرًا محفوفًا بالمخاطر، ولكن على الرغم من قمع دولتهم ومراقبتها، يبرز التفاني الإيماني في أبهى صوره.
أشار خيرات محمد مواطن أويغوري
“لم أتمكن من الحصول على جواز سفر طويل منذ عام 2016، وحتى عندما يُصاب أحدهم بنزيف داخلي من شدّت الانتظار، تُمنع الأوراق بحجة “الحفاظ على الأمن”.
الرحلة إلى مكة الحرام تحولت إلى حلم بعيد، لكننا نجد طرقًا عبر آسيا الوسطى، نجتمع تحت نجوم الصحراء ثم نتحرك إلى تركيا أو باكستان، من ثم السعودية، السفر يتطلب حوالى 3000 دولار وخطر الاعتقال عند الحدود .. نمضي رغمًا عن الجلاد”.
أكد علي يحيى مواطن أويغوري
“ربما يبدو أن الخيارات محدودة، لكن الروح لا تُقيد، أعرف امرأة تجاوزت الستين، تقدمت بطلب رسمي، وتمت الموافقة، لكنها عادت باكية؛ لأن المجموعة الرسمية كانت تحت رقابة ضخمة: بطاقات ذكية ملصقة بالجوازات، مراقبة لمسارنا عن بعد، وكأننا إرهابيون.
أما أنا فقد اخترت طريقًا خاصّا عبر السماء والطرق البرية مرورًا بطاجيكستان وبعدها تركيا، ومن ثم مكة، الرحلة تستغرق شهرًا كاملًا، والقلق يرافقنا في كل محطة”.
أوضح عثمان داود خبير شؤون دينية
“في العرف الإسلامي، الركن الخامس هو واجب لا يُرد، وليست المسألة مبارزة مع سلطة، بل تذكّر بالخلافة الأولى.
لكن الحكومة الصينية فرضت على الحجاج قول “أنا وطني قبل أن أكون مسلمًا”، أحيانًا قبل السماح بالخروج، هناك امتحانات إيديولوجية، وحصص تلقين قبل الرحيل، وكأن الحج جزاء وطني قبل أن يكون أداء ديني”.
أشار جان جانغ محلل سياسي وغير مسلم
“سطحتُ دراسة البطاقات الذكية GPS المرفقة بجوازات سفر الحجاج، الهدف الرسمي السلامة، لكن الدافع السياسي آتٍ من رغبة في تتبع حركة الأويغور، حتى خارج البلاد.
وفوق ذلك، هناك ضغوط على الأقارب تبقى في الوطن، لقد تأكدت من أن أجهزة المراقبة تتبع معالم الحجاج داخل الحرمين، ثم يرسل المحاورون تهديدات عبر هاتف العائلة”.
أكد نزار تورغاي ناشط حقوقي من المنفى
“يروي لي كثيرون عن شبكات مساعدة تتشكل في تركيا وماليزيا وأماكن أخرى: سفرات منظمة في طابور هادئ، بدون تسويق رسمي، أو جوازات مرسلة من أصدقاء تم تحريرها هناك، البطاقات الذكية تُترك وراءنا قبل دخول مكة، نجائر مع السلطات السعودية، والتكتم مهم لأقصى حدود”.
أوضح لي سانان متخصص بشؤون الشرق الأوسط
“في دراسة أكاديمية رأيت أن حاججي الأويغور الذين يحجزون مواعيد رسمية مرتبطون مباشرة بالحزب الشيوعي.
أما الآخرون، فعندهم شبكات للأسفار ومرشدون لا يُعرفون رسميًا، وقد تلقوا تحذيرات في تركيا ومنعوا من التدرب في أحادي.
إلا أنهم أصرّوا على الحج، وما زالوا يفلتون من رقابة الصين — للأسف — من خلال تحويل هاتفهم إلى هواتف أوروبية”.
أشار صلاح الدين عمر مواطن أويغوري
“رحلتي كانت بانتحار تقني: البطاقة الذكية تركتها قبل الوصول إلى جدة، واشتريت شريحة سعودية محلية، وشغّلت هاتفًا بسيطًا لا تلاحقه برمجيات صينية.
الطريق بين المشاعر: خوف وطمأنينة، في مكة، يسود إحساس عميق أنا حراً، لا علاقة لي بالديوان السياسي”.
أكد بشير محمد مواطن أويغوري
“عندما وصلنا إلى تركيا، بعثوا إلينا جوازات مؤقتة وصور ملصقة، لكن السلطات التركية خافت، وتبادلت أحيانًا صور وجوازات مع السفارة الصينية.
هناك حالات اعتقال بشكل غير معلن أو ضمني، دفعت مبالغ كبيرة لضمان عدم تتبعنا، في السعودية، كنا نظل في باصات منظمة، ولا نخرج إلا لمناسك الحج، لكي لا نلاحق من جديد”.
أوضحت ناهد حسين خبيرة أمنية
“المراقبة لا تتوقف بعد العودة، أعرف حالة أحبّت إتمام مناسك العمرة، ورجعت ليصلها تهديد من السلطات الصينية عبر أرقام مستورة، مفادها: “إذا لم ترجع إلى الصين قريبًا فسيكون مصيرك مجهولًا”، هذه طرق للضغط حتى من داخل السعودية”.
أشار يوسف إبراهيم ناشط مسلم
“يبدو أن الحكومة الصينية لم تكتفِ بمنع الجوازات؛ حتى الفيزا تُعطى فقط إذا كان حاملها ممن اعتبرهم “وطنيين جيدين”، أما من يتبع صوت قلبه الديني فقد يُحجز في طرق البحر والصحراء، ويعاد جاثمًا إلى بلاده بواسطة دول ثالثة”.
أكد نجم الدين تورسين طالب جامعي
“عددنا قليل، لكن إيماننا لا يُقرأ بسهولة، دخلنا تجربة للحج بترتيب ذاتي: من قيرغيزستان إلى إسطنبول، ثم رحلة إلى جدة.
ثلاث أشهر لتجهيز الورق، لكن في النهاية ارتحنا في الحرم، لكن لعبتنا كانت في البداية والمنتهى: المحافظة على أن لا تكون لنا أثر تقني لا يمكن تعقبه”.
أوضح رفعت محمود محلل ديني
“الحج الصامت الذي يقوم به الأويغور أصبح اليوم حركة عفوية، يعتمد على النصيحة الشفهية فقط، بعض القيادات الدينية تقول إن الأمر يستحق التضحية؛ حتى عند تعرضهم للملاحقة، فإن القيام بالركن لا يعادل قيمته الأولى في القرآن”.
أشار كمال الدين شيخ وإمام سابق في أويغورستان
“لم نعد نقيم دروسًا عامة، من يشرح الفقه يفعله في البيوت المغلقة، عندما تحركت مجموعة لأداء الحج، كنت بينهم.
جلسنا على أطراف المدينة، وخلعنا جوازات السفر قبل دخول الأراضي السعودية، هذه الاستراتيجية أوقفت كاستخدام القرين”.
أكد أحمد سعيد ناشط حقوقي
“رأيت وثائق تظهر تأكيداً على تجميع “القوائم الإلكترونية” للحجاج، ليس فقط للرقابة، بل للحرمان إذا كنت قد حججت سابقًا، فلن يتم قبول طلبك الرسمي مرة أخرى؛ حتى إن كنت ضمن أصدقاء الحكومة”.
أوضح حكيم تورغون ناشط حقوقي
“ما نراه هو امتثال مضاعف: امتثال للحلّ الرسمي الصيني بأسلوب وهمي، ثم امتثال لله في الحرمين بلا شهود.
هذه المأساة الروحية تتجلى في كل خطوة سرية جوازات مزيفة، طرق ملتوية، شبكة دعم لوجستي واجتماعي، وشعور الذي يعود بأنه تخطى الحدود المرسومة بالكامل”.
في زمن تتواطأ فيه الجغرافيا مع السياسة، ويُختزل الإيمان في بصمة رقمية أو ملف أمني، يثبت مسلمو الأويغور أن الروح المؤمنة لا تُؤسر مهما ضاقت السجون واتسعت الرقابة.
هؤلاء ليسوا مجرد حجاج، بل شهداء على قيد الحياة، يقطعون المسافات متخفين، يواجهون الاعتقال والتعذيب والنفي، فقط ليقفوا يومًا أمام الكعبة، ويرددوا: “لبيك اللهم لبيك”.
في كل قطرة عرق تسيل في الطريق، وفي كل نظرة خوف على الحدود، هناك إصرار لا يُوصف على أداء فريضةٍ حُوّلت إلى جريمة.
رحلة الحج التي يفترض أن تكون سلامًا روحيًا، أصبحت عند الأويغور عملية استخباراتية مضادة، تخطيط دقيق، وهروب صامت من آلة قمع لا ترحم.
لكن رغم كل شيء، يصلون .. يكبرون .. يرمون الجمرات، ويطوفون، وكأنهم يعلنون انتصارًا صغيرًا في وجه منظومة طاغية.
بين الرعب، والعزم، والتواصل الخفي، يظهر مسلمو الأويغور أمام المفهوم التقليدي للحج كأبطال في قصة ملحمية فريضة دينية تمتد خارج إطار الدولة إلى استحقاق إنساني، رغم السجان.
تجربة الحج لم تكن مجرد وجهة، بل رحلة وجودية تتخطى الرقابة، وتثبت أن الإيمان المستتر لا يُهزم، وأن المناسك تتحوّل إلى صرخة سرية بين الحرمين.
وأن الإيمان الحق لا يحتاج تصريح سفر، وأن صوت “لبيك” أقوى من أي تنصت، وأن الظلم، مهما تجبّر، لن يحجب نور مكة عن قلوب مؤمنة تهتف باسم الله خفية، وتعلنه جهرًا في الطواف.
هنا تُختم القصة، لكنها لا تنتهي .. فطالما هناك أويغوري واحد يؤمن بالحج، سيبقى الطريق إلى مكة محفوفًا بالمخاطر .. لكنه لن يُغلق أبدًا.