مقالات وآراء

علي الصاوي يكتب: عين على مصر؟

ليست هناك فضيلة تعادل فضيلة الثبات على المبدأ والتمسك بالثوابت مهما تربصت بالإنسان الدوائر واشتدت عليه رياح المِحن خاصة لو كان صاحب تاريخ كبير وأصالة ضاربة في الجذور؛ لا تحركه النوازل ولا تؤثر فيه الزلازل، ومنذ فجر التاريخ ومصر درة تاج العروبة وقلب الأمة النابض بمقتضى التاريخ والجغرافيا والحضارات القديمة، والإيمان بها فرض عين وواجب وطني لا يحتاج إلى إعادة نظر مهما عصفت بها الأزمات وتكالبت عليها عوادي الزمن.

وقد رأينا بعض الأقلام التي انبرت عن وطنيتها وتماهت مع السائد من الانحدار واختلال الموازين وصفقت مع المصفقين، حين طالبت بضرورة تغيير رئيس جامعة الدول العربية بل وتداول نقلها إلى أى دولة عربية أخرى، وليس بالضرورة أن يكون رئيسها مصريا! ولا أدري بأى منطق تاريخي وحضاري استند عليه ليقول مثل هذا الكلام، ومن أى تأتي هيبة البيت إذا تنحى كبيره بدعوى مرضه أو ضعفه، وتقدّم عليه الصِبية بدافع الشباب والوفرة المادية ليحلّوا مكانة؟

منذ متى ومقومات القيادة التاريخية باتت تُختزل فقط في وفرة المال؟ فليس بالمال وحده تُقاد الأمم، بل يقود الأمة من يملك مقومات الأصالة والتاريخ والجغرافيا، مَن لديه الرصيد الكافي من النصاب الحضاري والثقل الإنساني وخاض معارك كبيرة غيرت من شكل التاريخ.

مهما اشتدت بمصر الأزمات تظل هى رأس القاطرة وبوابة الحلول الوسطي والرأس الضخم في جسد الأمة العربية، وتلك مؤهلات ذاتية لا تُشترى بالمال ولا بالثروات لكنها تُوهب من رب السماوات فضلا منه وكرما، مصر ليست كيانا مؤقتا ولا قيادة مصطنعة ظهرت على حين غفلة من التاريخ الإنساني، بل هى ضلع أساسي في مثلث حضاري تشكّل العالم من خلاله، ففي الوقت الذي يحاول فيه مَن يملكون المال شراء تاريخ لهم وصناعة أوهام حضارية مستغلين أزمات الكبار لملء فراغهم، نجد من يُقزّم من دور بلاده ومكانتها ويحتج بضعفها وكراهيته للنظام وتكالب الأزمات عليها وأنها ما عادت تصلح لا لقيادة ولا ريادة.

كلامي ليس مجرد طنطة عاطفية ولا انحياز أعمى بل حقيقة واضحة كالشمس في وضح النهار، مصر التي حاربت واستنزفت وانهزمت وانتصرت وما زالت متماسكة وتعيش في ميلاد مستمر، مصر هى التي وضعت اللبنة الأولى والقواعد بمجالات شتى في دول شقيقة، الدولة الوحيدة التي تستمد هيبتها ومكانتها من جغرافيتها وحضارتها التي جلبت عليها الحسد والغيرة من دول كانت بالأمس تلتزم الجلوس طالما مصر واقفة شامخة، فمن غير مصر يصلح لاحتضان الجامعة العربية؟

لقد ثبت في هذا الزمان أن المال يشتري كل شيء إلا الانتماء الوطني والشرف الإنساني، فهما بمنزلة الفطرة السليمة التي تقود الإنسان لا إراديا وتدفعه نحو حب الوطن والتضحية من أجله والدفاع عنه في الصغيرة قبل الكبيرة، وإن اختل توازنه واشتدت عليه الأزمات، لكن تبقى الدماء فيه تجري وقلبه ينبض بالحياة، فليس من العقل أن يحتاج النهار إلى دليل، وليس لمصر بديل، مهما استأثر بالثقل الاقتصادي بعض الدول الأخرى، فهذا الالتفاف الاقتصادي المتعمد على مصر لإضعافها لن يطول، والكبوة لن تستمر، ومهما بلغت الأزمات واشتدت الخلافات فليس هذا مبرر للانتقاص من قيمة وقدر مصر وإبعادها عن المشهد، ولا تجعل خلافك مع النظام يعمى بصرك ويطمس على بصيرتك وتذهب صاغرا تكيل المدح الأعمى لمن يملك الدرهم والدينار، فكل شيء له ثمن رخيص، والتاريخ لا يُشترى بل تصنعه السواعد والعقول في تراكم مستمر، كن وطنيا على أية حال كان فيه وطنك، كن وطنيا قولا وعملا، تجرّد من كل الخلافات حين يتعلق الأمر بمكانة مصر، فجميعهم كبار بمصر عكس مَن يظن أن مصر كبيرة بهم، الزم غرز وطنيتك كالتزامك بغرز عقيدتك، كن مصريا خالصا يحترمك الخصوم وتُفسد على الحاقدين قنوات السموم، أنت في وطن لم يُخلق صدفة ولن يُترك سدى.

واختم بعبارة خالدة لأحدهم حين قال: مصر من دون الأقطار العربية تخسر كثيرا، لكن الأقطار العربية من دون مصر تُدمّر، الكبير يظل كبيرا وإن لم يملك، والصغير يبقى صغيرا وإن حاز وملك. وصدق المتنبي حين قال:
…….
وفي تعب من يحسد الشمس نورها
ويجهد أن يأتي لها بضريب

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى