مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: السودان… حين تتناسل المآسي ويصمت العالم

لم يعُد ما يجري في السودان حربًا أهليةً عابرة، بل انكسارًا إنسانيًا شاملاً يُعيد صياغة الجغرافيا بالبؤس والدم، ويحوّل الخريطة إلى نهرٍ من النزوح، يمتدّ من دارفور حتى كردفان، ومن الخرطوم إلى حدود تشاد وجنوب السودان.

هناك، تُكتبُ المأساة بالحرف والرماد، ويُختبر صبرُ الإنسانية على حدود اللامبالاة.

في الثالث والعشرين والرابع والعشرين من أكتوبر ٢٠٢٥، أعلنت أربع من كبريات وكالات الأمم المتحدة — اليونيسف، المفوضية السامية للاجئين، المنظمة الدولية للهجرة، وبرنامج الغذاء العالمي — أن السودان أصبح أكبر أزمة إنسانية على وجه الأرض.

أكثر من ٣٠ مليون إنسان ينتظرون لقمةً أو دواءً أو مأوى، و٩.٦ ملايين نازحٍ يطاردون سراب الأمان، و١٥ مليون طفلٍ يتأرجحون بين الموت والجوع والمرض… بينما لا يتجاوز التمويل الدولي ربع ما تحتاجه عمليات الإنقاذ.

أي أن ثلاثة أرباع السودان تُركت لتواجه القدر وحدها، عاريةً من المساعدة والرجاء.

خلف هذا الخراب تختبئ حربٌ بلا أفق، تتناسل فيها البنادق ويضيع فيها الوطن.

الجيش النظامي وقوات الدعم السريع يُديران حرب استنزاف لا رابح فيها، بينما يقف المجتمع الدولي متفرجًا، والعواصم العربية تُدير وجهها عن جرحٍ ينزف في خاصرتها.

لقد تحوّلت الحرب إلى مرآةٍ تعكس هشاشة النظام العربي والإفريقي، وانكشاف العالم أمام سؤالٍ بسيط: أين الضمير؟

ليس السودان وحده الذي يحترق، بل صورة العالم في مرآته الأخلاقية.

حين يموت طفلٌ كلّ عشر دقائق من سوء التغذية، يصبح الصمت جريمةً، ويغدو الحيادُ تواطؤًا.

لقد احترقت الخرطوم مرّتين: مرةً بالنار، ومرةً بالنسيان. والدم السوداني الذي يبلّل الرمال، ليس دمًا هامشيًا، بل صفحةٌ من كتاب هذه الأمة الذي يُطوى على عجل.

مصر — التي كانت دومًا سندًا للسودان في التاريخ والمصير — مطالبة اليوم بدورٍ أكبر من الوساطة، وأعمق من الجوار.

فالأمن القومي لا يُصان بالجدران والمعابر المغلقة، بل بالقلوب المفتوحة والسياسة الحكيمة التي تُوازن بين الواقعية والمروءة.

آنَ للعرب أن يتقدّموا بمبادرة إنسانية شجاعة، لا تُحابي طرفًا ولا تُعادي أحدًا، بل تنطلق من ضميرٍ جمعي يرى في السودان مرآة نفسه، لا ساحة نفوذه.

الإنسانية ليست شعارًا أمميًا، بل التزامٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ بإنقاذ ما تبقّى من المعنى في هذا العالم.

ولعلّ مبادرةً مصرية-عربية مشتركة تُعيد فتح الطريق نحو السلام، وتجمع ما تفرّق من السودان قبل أن يصبح الأشلاء عنوانًا للدولة، ويصير الوطنُ مجرد ذكرى في أرشيف الأمم المتحدة.

سيبقى السودان اختبارًا حقيقيًا لضمير العالم، كما كانت فلسطين بالأمس، وسوريا واليمن من قبل.

وإذا مرّ هذا الخراب بلا حساب، فستتكرر المأساة بأسماءٍ جديدة، على خرائط أخرى، بأصواتٍ صامتةٍ تصرخ في وجداننا جميعًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى