مصرملفات وتقارير

عيد الأضحى يذبح ثروة مصر من الجلود تحت سكين الإهمال السنوي

وسط زغاريد العيد وتكبيراته، واحتفالات الأسر المصرية بذبح الأضاحي، تتكرر كل عام مأساة صامتة لا يلتفت إليها كثيرون، لكنها تنزف من قلب الاقتصاد الوطني بلا توقف.

ملايين الجلود تُسلخ ثم تُهدر، تُرمى في الشوارع، وتُباع بأبخس الأثمان، في فوضى موسمية تعيد نفسها بعناد قاتل.

وبينما تمتد يد الدولة لدعم الصناعات المحلية وتبحث عن فرص للنهوض، تذبح فرصة ذهبية كل عيد أمام أعين الجميع… في صمت مريب!

الجلود .. الثروة التي تدفنها الفوضى.

صناعة جلدية كان يمكن أن تنافس إيطاليا وتركيا، تنهار بفعل عشوائية الذبح، وجهل المواطنين، وتخبط المسؤولين، وغياب أي خطة قومية للاستفادة من كنز سنوي يتكرر بانتظام.

موقع “أخبار الغد” يغوص في أعماق هذه الأزمة المتكررة، يكشف بالأرقام، والشهادات، والحقائق، كيف تضيع مليارات الجنيهات سنويًا تحت سكين الإهمال، وكيف يمكن أن يتحول العيد من موسم للفرحة فقط إلى موسم للنهوض الاقتصادي الحقيقي.

عيد الأضحى .. موسم الخير أم موسم الهدر؟

في مشهد تتداخل فيه الروحانيات مع البهجة العائلية .. لكن خلف هذا المشهد، تكمن أزمة اقتصادية غير مرئية، تهدر ثروة قومية ضخمة في كل عيد: جلود الأضاحي.

تشير التقديرات إلى أن أكثر من 75% من جلود الأضاحي تهدر سنويًا بسبب الذبح العشوائي، وسوء الوعي المجتمعي، وتقصير واضح في التنظيم الحكومي.

الجلود التي كان من الممكن أن تكون مادة خام لصناعة مصرية عريقة تُرمى في الشوارع أو تُباع بأبخس الأثمان لتجار الموسميات.

أصوات من الشارع .. 15 شهادة حية تكشف الحقيقة

أكد محمد حسن، موظف حكومي من الجيزة، أن عيد الأضحى لم يعد فقط موسمًا للفرحة، بل أصبح مشهدًا للفوضى.

“كل سنة، بشوف نفس المنظر، جلود الأضاحي متكومة في الشوارع، مرمية في الزبالة، بينما بنستورد جلود لصناعتنا الجلدية! إزاي؟ فين التنسيق؟ فين الحكومة؟”، متسائلًا عن غياب حملات التوعية وضرورة تنظيم جمع الجلود بطريقة محترفة وممنهجة.

أوضحت سعاد نبيل، مدرسة من القاهرة، أنها لطالما تساءلت عن مصير جلود الأضاحي التي كانت تُرمى بجانب صناديق القمامة.

“بنحس إن في حاجة غلط، والناس ماعندهاش وعي. الجزار بياخد الجلد، يبيعه أو يرميه، ومفيش جهة رسمية بتكلمنا أو بتجمع الجلد بطريقة منظمة”.

وأشار عبد الرحمن الطوخي، طالب بكلية التجارة، إلى أن هناك افتقار تام لأي حملة إعلامية توضح أهمية الجلد كمورد اقتصادي.

“لو الدولة عملت حملة بسيطة على التلفزيون والسوشيال ميديا، الناس هتفهم إن الجلد ده فلوس، مش قمامة. لكن مفيش حد بيتكلم عن الموضوع بجدية”.

أكد الدكتور حسام عبد الباسط، أستاذ الصناعات الجلدية بإحدي الجامعات، أن جلود الأضاحي في مصر قادرة على دعم الصناعة الوطنية بنسبة 60% من احتياجاتها السنوية من الجلود الخام.

“لكن اللي بيحصل هو إن معظمها بيتلف نتيجة الذبح العشوائي، والسلخ غير المهني، والتخزين الخاطئ. بنفقد مليارات سنويًا حرفيًا”.

أشار مصطفى الغزالي، جزار من منطقة إمبابة، إلى أن أغلب المواطنين لا يهتمون بالجلد بعد الذبح. “الناس بتقول لي خده ارميه، أو بيدوه للي يشتريه بجنيهات معدودة. المشكلة إن الجزارين مش مدربين صح على السلخ، والجلد بيتقطع”.

أوضحت مروة الشرقاوي، باحثة في الاقتصاد الزراعي، أن ما يتم فقده في موسم العيد وحده يكفي لتشغيل عشرات المصانع الصغيرة لمدة عام كامل. “فيه خسارة غير مرئية بتحصل، ومع كل عيد بندفن فرصة ذهبية بدل ما نستثمر فيها”.

أكد إبراهيم المنياوي، مالك لمصنع جلود، أن الجودة الرديئة للجلود التي تصل إليهم بعد العيد سببها الأساسي الذبح غير السليم. “بنضطر نرفض كميات كبيرة بسبب السلخ السيئ أو الحفظ الخطأ، والمصانع بتخسر كتير بسبب ده”.

أشارت ليلى جاد، ناشطة بيئية، إلى أن التخلص العشوائي من الجلود بيئيًا كارثة. “الجلود بتتحلل وتسبب روائح وذباب وأمراض، والمجاري بتتسد، والمشهد كارثي. المفروض يبقى فيه تنسيق بين الأحياء والمحليات لجمع الجلد بطريقة بيئية سليمة”.

فرصة ذهبية تُهدرها العشوائية وسوء الإدارة

أوضح أحمد داوود، صاحب ورشة دباغة تقليدية، أن الدباغين الحرفيين يعانون من نقص الجلد المصري الجيد. “زمان كنا نعتمد على جلود العيد، دلوقتي بنشتري مستورد غالي، بسبب سوء تخزين الجلود المحلية”.

أكدت نجلاء عبد المقصود، ربة منزل من شبرا، أن الأهالي لا يعرفون شيئًا عن قيمة الجلد. “إحنا بنتعامل معاه كأنه نفاية، وده جهل لازم يتغير، لازم الإعلام يدخل في الموضوع”.

أشار الدكتور محمود عبد الستار، خبير التنمية المحلية، إلى أن هناك فرصة عظيمة إذا ما تم إنشاء مبادرة وطنية لجمع الجلود بشكل منظم. “تخيل لو كل حي عنده مكان مخصص لتجميع الجلود، بفرق عمل مدربة؟ هنوفر فرص عمل ونمنع التلوث ونغذي الصناعة”.

أوضحت حنان الجوهري، موظفة بأحد البنوك، أن البنوك يمكن أن تشارك في التمويل المسبق لجمع الجلود وتخزينها. “ده مشروع قومي مصغر، لو اشتغلنا عليه بنظام ممكن يبقى مصدر دخل للقرى والمناطق الشعبية”.

أكد وائل حلمي، تاجر جلود، أن التجار الموسميين هم المستفيد الأكبر حاليًا. “بياخدوا الجلد من الناس بجنيهات، ويبعوه بمئات، بدون رقابة ولا ضرائب، وده بيضر الصناعة الرسمية”.

أشارت زينب صادق، طالبة بكلية الإعلام، إلى أن القصة تحتاج فيلم وثائقي أو حملة وطنية كبيرة. “الإعلام لازم يلعب دور تنويري، لازم الناس تعرف إنها بترمي ثروة تحت رجلها”.

أوضح عمر كمال، باحث في شؤون الصناعات الصغيرة، أن القطاع الخاص يجب أن يتحرك لإنشاء وحدات متنقلة لجمع الجلود. “القطاع العام عنده بطء، لكن لو فيه حوافز ممكن يظهر نشاط استثماري خاص في الموسم ده”.

صناعة تنهار .. وثروة تهدر

بحسب بيانات رسمية، تنتج مصر قرابة 5 ملايين جلد أضحية سنويًا خلال موسم العيد فقط. ومع ذلك، لا تستفيد الصناعة إلا من نسبة ضئيلة، في حين تعتمد على استيراد جلود بأسعار مرتفعة من دول إفريقية وآسيوية.

الهدر لا يتوقف عند ضياع الجلود، بل يشمل تكلفة النظافة والصحة العامة ومعالجة التلوث الذي تسببه هذه المخلفات، فضلًا عن خسارة فرص عمل محتملة في مجالات التصنيع والتجارة والدباغة.

من يُنقذ الذهب المدفون في عيد الأضحى؟

يبدو أن عيد الأضحى يحمل في طياته فرصة اقتصادية هائلة يمكن أن تعود بالنفع على ملايين المصريين، إذا ما تمت إدارتها بالشكل السليم.

لكن ما دام الأمر يُترك للفوضى، فإن الذهب الذي تطرحه الأضاحي سيظل مدفونًا تحت أكوام القمامة، ينتظر من يخرجه للنور.

كارثة وطنية صامتة: جلود الأضاحي تضيع سنويًا بين الإهمال والطمع!

وهكذا، وبينما تنتهي أيام العيد وتخفت أصوات التكبير، تبقى رائحة الإهمال تزكم الأنوف في شوارع تكدست فيها جلود الأضاحي، لا لشيء سوى غياب رؤية، وافتقار إرادة، وانعدام تنسيق. ثروة قومية تُذبح كل عام، لا بسكاكين الجزارين، بل بأيدي تقصيرٍ رسمي، وجهلٍ مجتمعي، وصمتٍ إعلامي.

لقد آن الأوان أن نكف عن دفن الذهب في تراب العشوائية، وأن نتعامل مع موسم عيد الأضحى باعتباره فرصة إنتاجية قومية، لا مجرد طقس شعائري ينتهي بالتهليل والتهام اللحم. إن استمرار هذا النزيف الوطني يطرح سؤالاً مرًا: كم من المواسم سنهدرها قبل أن نصحو؟

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى