
في زمن يُختطف فيه المعنى، ويُقتل فيه الصوت قبل أن يُولد، يبقى الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يُعاد خلقه كلما اشتد عليه الألم. نحن لا نصنع حاجاتنا عبثًا، بل كما الثائر يُشعل ثورته حين لا يجد بدًّا منها، كذلك تصنع الحاجة إنسانيتنا حين تعجز كل الأدوات الأخرى عن إنقاذنا.
من الإنسان البدائي إلى الإنسان المعاصر، تظل الحاجة أمّ الإنسانية.
لم يكتشف الإنسان النار من باب التسلية، ولم يخترع أدواته الأولى ترفًا، بل اضطرارًا. فمن الكهوف إلى المدن، من الحجر إلى المعالجات الذكية، كان الطريق واحدًا: الحاجة هي البوصلة. وفي أزمنة الانهيار، لا فرق كبير بين بدائي ومحاصر، فكلاهما يُولد من الرماد باحثًا عن بقايا حياة.
هكذا وُلدت قافلة الصمود.
لم تنبع من وفرة، ولا تحركها ضمائر مترفة، بل شُكّلت من وجع، من صرخات مكتومة، من احتياج قاهر. قافلة تحمل على أكتافها جراح الشعوب المنسية، تصرخ بأعلى صوت: “نحن ما زلنا نؤمن بالإنسان، رغم كل شيء.”
نعم، نحن أبناء الحاجة. لكنّ أشدّ الحاجات ليست مادية، بل إنسانية.
وجه غزة… المرآة التي كسرت كل الأقنعة
ودعني الآن آخذك إلى مشهد مختلف، مشهد المرأة في غزة.
ليس بوصفها “قضية حقوقية”، بل بوصفها مرآة الإنسان حين يُسحق تمامًا.
إلى دعاة حقوق المرأة في العالم، إلى لجان الأمم المتحدة، إلى فلاسفة الجندر ومُنظّري الإنسانية…
هل رأيتم المرأة في غزة؟
هل سمعتم صوتها وهي تبحث عن فوطة صحية وسط الحصار؟
هل فكرتم في أن هناك أمًا فقدت القدرة على احتضان طفلها لا لسبب إلا لأن الغارة سبقتها؟
هل خطر ببالكم أن هناك امرأة لا تطلب اليوم حرية التعبير ولا تمثيلًا سياسيًا… بل تطلب فقط حمّامًا نظيفًا؟
هذه المرأة لا تريد الآن طاولة حوار، بل تريد الحياة.
لا تنتظر منكم خطاباتكم، بل لمسة إنسان.
هي المرأة الغزاوية، بطبعها الرقيق وخجلها المشرقي، بمشاعرها الراقية التي صمدت أمام كل أشكال القصف والتجويع، تُطالب فقط بأبسط حقوق الإنسان:
بحقها في الأمن
في الدفء
في لمّة العائلة
في بسمة صغيرة
بل في أبسط الاحتياجات البيولوجية المهملة في تقاريركم!
قافلة الصمود ليست كافية… لكنها البداية
لن تكون القافلة علاجًا شافيًا لكل الجراح. لكنها صوت. موقف. إعلان وجود.
هي دليل على أن فينا ما يزال ينبض. أن بداخلنا ما زال إنسان، لم يُشترَ، ولم يُبَع، ولم يُبرمج على الصمت.
ولعلها، رغم ألمها، تقول للعالم كله: