حوارات وتصريحات

فاروق حسني: نعم كنت قريبا من مبارك والمتحف الكبير فكرتي

في ركنه المعتاد، جلس الفنان فاروق حسني، يمارس طقوسه الصباحية المعتادة. كان يقرأ الصحف بتأنٍ، كما لو كان يتفحص لوحات فنية.

داعبت وزير الثقافة المصري الأسبق مازحا، وقد أثنيت على التزامه بتلك العادة التي لم تغيرها السنوات، فلم يتأخر في الرد: “إدمان القراءة هو المرض، الذي لا يُطلب له علاج، بل يُخشى الشفاء منه”.

كانت إجابته السريعة، الممزوجة بابتسامة عريضة ملأت وجهه، تحمل دفء الألفة، ونبرة رجل لا يزال يملك مفاتيح ذاكرته الحادة، كما اعتدت في لقاءات سابقة معه.

لكن شيئا ما كان مختلفا هذه المرة. فالموسيقى الكلاسيكية، التي لطالما كانت زائرة وفية لمكتبه في شارع العزيز عثمان بالزمالك، لم تكن وحدها من يملأ الفراغ، بل كان صوت طرقات البناء يتسلل من خلف الجدار، حيث تُجرى أعمال تأهيل المكان ليُصبح متحفا يحمل اسمه.

متحف اختار أن يهديه إلى الدولة، ليكون لوحة أخيرة يضعها الفنان على جدار الزمن، ورافدا جديدا من روافد الثقافة المصرية، وهديته الخاصة إلى وطنٍ خدمه لأربعة وعشرين عاما في وزارة الثقافة.

وكان من ملامح الاختلاف أيضا ذلك الحرص على التفاصيل، إذ طلب مدير مكتبه، بلغة مهذبة وذوق رفيع، ارتداء الكمامة قبل بدء الحوار. لم يكن الأمر مجرد إجراء احترازي تجاوز زمانه، بل إشارة إلى رجل يرى في النظام احتراما، وفي التفاصيل الصغيرة انعكاسا لأناقة كبرى، تشبه تماما طريقته في الحياة والرسم والإدارة.

حين تسأله، لا يتهرب، يجيب، وإن طلب لاحقا ألا تُنشر بعض إجاباته، وكأن الزمن لم يخفف من صراحته المعهودة، بل علمة أن يتأنى، وأن يختار لتصريحاته توقيت الظهور. لم يعد يلقي بها كسهام حادة كما كان يُعرف، بل بات أكثر ميلا إلى الحذر، وإلى الوقوف على شفا الكلمة.

يجيب باقتضاب أحيانا، كمن لا يريد أن ينفق الكلمات إلا فيما يستحق، لكنه، حين يُستفز بسؤالٍ ما، تطل تلك الابتسامة الهادئة التي عرفتها منه في لقاءات سابقة، ابتسامة تدرك معها أنه على وشك أن يمنحك إجابة أعمق، وإن كانت مشروطة أحيانا بعدم النشر.

وخلال الحوار، الذي استمر قرابة الساعة والنصف، تحدث عن مفهوم الثقافة، وعن المعركة التي خاضها للفوز بمنصب مدير عام اليونسكو، والتي لم تتوّج بالنصر كما كان متوقعا، لكنه تحدث عنها بقدر من الرضا والتأمل، دون مرارة، بل بنبرة توحي بأنه يرى الأمور بعين الفنان لا السياسي.

كما تحدث عن سر بقائه وزيرا للثقافة لأربع وعشرين سنة، وعن مشروع المتحف المصري الكبير الذي بدأ في عهده، وأصبحنا اليوم على بعد أيام من افتتاحه، وكأن الحلم الذي زرعه قد آن أوان حصاده.

وما بين الفلسفة العميقة، التي تُذكرنا بتكوينات لوحاته التجريدية، والكلام السهل المباشر، انسابت إجاباته معلنة عن شخص مختلف، أصاب وأخطأ كأي مسؤول، لكن ما لا يختلف عليه كثيرون، أنه صاحب بصمة واضحة ومؤثرة في الثقافة المصرية.

وحين تطرق الحديث إلى دولة الإمارات، شعرت بلمعة مختلفة في عينيه، وابتسامة مشرقة لا تخطئها العين. تحدث عنها بمحبة واضحة، وكأنه يتحدث عن صديق قديم يعرفه جيدا ويحفظ له الود.

كل هذه التفاصيل جعلت الحوار مع فاروق حسني أقرب إلى نزهة فكرية بين أروقة الفن والسياسة، بين حكايات الماضي ومشروعات لا تزال تُبنى. حديثه لا يُطلق كتصريحات، بل يُنسج كلوحات، تكتمل تفاصيلها حين تُقرأ بعين المتأمل، فخلف كل إجابة حكاية، وخلف كل صمت تأمل فنانٍ لم يتوقف يوما عن الإبداع.

الثقافة كائن حي

كانت البداية من انطباع، تسلل إليّ خلال كلمة ألقاها في احتفالية جوائز مؤسسته الثقافية عام 2023، حيث وقف حينها مخاطبا الفائزين قائلا: “لولا تلك الثقافة التي تجري في شرايين الشعب المصري والتي يحملها على ظهره دون أن يشعر، لتاهت بوصلتنا وتفرقت مصادرنا”.

عبارة بدت لي أشبه بصرخة خفية، أو ربما تأمل أخير من رجل عاش عمره في خدمة هذا الكائن المسمى “ثقافة”.

نقلت له هذا الإحساس خلال لقائنا، قلت له: “شعرت وكأنك تتحدث عن الثقافة كما لو كانت كائنا حيا يعيش بيننا”، فلم يتردد في تأييد الفكرة، بل منحها من روحه المزيد من الحياة حين قال: “نعم، الثقافة كائن حي، لأنها متغيرة، تكبر وتنضج، ولها تأثير مادي على الإنسان، فهي كائن حي بقوة التأثير الذي تمارسه على المجتمع والفرد معا”.

لم تكن تلك مجرد كلمات تُقال، بل رؤية متجذرة في رجل أدرك مبكرا أن الثقافة ليست رفاهية، بل ضرورة بقاء، وحين سألته إن كانت الثقافة تتبدل مع تبدل الزمن، وإن كانت تتأثر بظروف المجتمع، أجاب وكأنه يرسم لوحة ذهنية: “الثقافة هي حالة حياة، هي رصيد مكثف لمجتمع بجسوره التاريخية وانطلاقاته، إنها مرآة المجتمع”.

الثقافة كائن حي.. يتنفس بيننا

ويتجدد بنا لو لم تكن الثقافة في شرايين المصريين لتاهت البوصلة

الثقافة لا تنتظر من يغذيها.. هي نتاج البشر

ثم جاء السؤال الطبيعي: هل يحتاج هذا الكائن الحي إلى تغذية؟ فابتسم، وقال بلهجة من يعرف أسرار الحياة الكامنة في اللون والصوت والفكرة: “هو يغذي نفسه بنفسه، لأن الثقافة إنتاج البشر، والبشر متجددون ومتنوعون، فهي حصيلة الإبداع الكلي للمجتمع. فمجتمعاتنا غير أوروبا، وغير أمريكا اللاتينية. كل مجتمع ينضح بما فيه، والثقافة دليل قاطع على حراك اجتماعي وحسي”.

وحين تطرق الحديث إلى ما بعد 2011، حيث السنوات الصعبة التي خاض فيها المجتمع المصري أعتى التحديات، سألته: كيف صمدنا؟ فأجاب دون تردد: “الثقافة والإبداع متجذران في شرايين هذا الشعب، وهما قوة مضادة لأي غزو فكري أو سياسي غير منضبط، والأدلة على ذلك من التاريخ كثيرة”.

الإبداع باقٍ.. والجهل إلى زوال

لكن، ماذا عن التحديات التي تواجه الثقافة المصرية الآن؟.. ابتسم تلك الابتسامة التي أعرفها جيدا، والتي تخفي خلفها إجابة غير مباشرة، فقلت له مازحا: “أنا أعرف هذه الابتسامة، وتعرف أنني لا أكتفي بها”، فأجاب: “الثقافة فكرة تولد كل يوم، بالإبداعات والرؤى”.

كان جوابه شاعريا، لكنني شعرت بمحاولة للهروب من عمق السؤال، فقلت: “لكن، هل هناك ما يعوق هذا الميلاد اليومي؟”، فجاء جوابه مباشرا: “طبعا، الجهل، وعدم الإدراك بأهمية الثقافة” ثم أضاف بلهجة حاسمة: “شعب بلا ثقافة هو شعب بلا ملامح، فالثقافة هي التي تعطي للشعب ملامحه، وهذه الملامح هي التي تمنحه الثقة”.

تملكني شعور بالتناقض بين وصفه السابق للشعب المصري بأن الثقافة تجري في عروقه، وحديثه عن الجهل كعائق رئيسي، فصارحته بهذا الشعور، فصمت لوهلة، ثم أجاب بتأمل فلسفي عميق: “الاكتمال يكون بالأضداد، فلا يحدث الاكتمال بحالة واحدة فقط، فالمجتمع فيه المثقفون وغير المثقفين، محبو الثقافة وكارهوها، والأضداد هي الطاقة المحركة للأمور، ولو لم يكن هذا التباين موجودا، لما وجدت الطاقة، ولا القوة الدافعة إلى الأمام”.

سألته بعدها: “وفي هذه المعادلة، من له الغلبة اليوم؟”، فقال بصوت هادئ واثق: “الجهل إلى زوال، أما الإبداع والقيمة فتبقى، صحيح أنهما ليسا بنفس كثرة الجهل، لكنهما أكثر تأثيرا؛ لأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، لذلك، يجب أن تكون قضيتنا الأساسية هي الحفاظ على جذوة الإبداع مشتعلة في المجتمع، لأن انطفاءها يعني فقدان المجتمع لبوصلته، وأشعر أن الثقافة والإبداع يمران بحالة من الوهن في هذه الأيام، لأسباب طرأت بشكل مفاجئ، ولا تزال غير مفهومة بالنسبة لي”.

الزبد يذهب جفاءً.. والإبداع يبقى رغم كل التحديات

الثقافة تولد كل يوم.. لكنها مهددة بالجهل

الثقافة تمر بحالة وهن.. والسبب لا يزال غامضاً

شعب بلا ثقافة هو شعب بلا ملامح

وزير الثقافة عليه أن يقتبس من الجميع ليصنع شيئا ملموسا

وفي محاولة لفهم هذه الأسباب، سألته: “هل السبب اقتصادي؟” فجاء رده بنبرة حزينة: “ربما تكون ظروف المجتمع نفسه غير مشجعة”.

شعرت أن لديه تفسيرا أعمق، لكنه يتردد في الإفصاح عنه، فرفعت عنه الحرج فقلت ممازحا: “ربما السبب أننا لم نُرزق بعد 2011 بوزير ثقافة بنفس كفاءة فاروق حسني؟” فابتسم ابتسامة خجولة، ورفض التعليق.

وتدخل مدير أعماله ضاحكا: “رجاء.. الابتعاد عن الأسئلة المفخخة!”، فضحك الوزير الأسبق ضحكة عالية، سرعان ما قطعها ليستعيد جديته، ثم قال متحدثا عن مهمة وزير الثقافة: “الثقافة حالة متغيرة، لأنك تتعامل مع مجتمع ذي قدرات عقلية مختلفة، بعضه مثقف، والآخر لا، بعضه يملك المعرفة، والآخر يفتقدها، والحرفة أن تستطيع الاقتباس من كل هؤلاء وتصنع شيئا ماديا ملموسا”.

شرعية الإنجاز أم دوافع أخرى

شعرت في إجابته باعتزاز لم يرد أن يعلنه بشكل مباشر، بما حققه من إنجازات خلال 24 عاما قضاها وزيرا للثقافة، وهو ما شجعني على طرح سؤال كنت أتردد في توجيهه. قلت: “البعض يرجع استمرارك في الوزارة طوال هذه المدة، ليس إلى شرعية الإنجاز، بل لأسباب أخرى”.

رد باهتمام ونبرة مرتفعة قطعت وتيرة الحوار الهادئ “الإنجازات ثابتة ومعلومة للجميع، فما الأسباب الأخرى التي يرددها البعض؟”.

أجبته بنبرة قلقة: “يتحدثون عن أنك كنت من الوزراء المقربين للرئيس مبارك، وهو ما منحك حصانة في أي تغيير وزاري”.

نعم، كنت قريبا من مبارك.. لأنني صادق وأوفي بالتزاماتي

أنا ابن المنظومة الثقافية.. ولم أهبط على الوزارة بـ”باراشوت”

المتاحف والمكتبات في كل ربوع مصر شهادة على انجازات 24 عاما 

لم تغضبه إجابتي كما توقعت، بل رد على الفور بعد أن ارتشف رشفة من كوب العصير أمامه: “ولم لا أكون من الوزراء المقربين من الرئيس مبارك؟ لقد كنت صادقا معه، وما أعد به أنفذه، وهذا ما يحتاجه أي رئيس من مرؤوسيه. هذه شهادة للرئيس الأسبق، فقد كان يجيد اختيار من يعملون معه، فقد ترك لي حرية العمل، وبالمقابل، قمت بما ينبغي أن يُفعل، ويشهد لي بذلك المتاحف التي افتتحت طوال فترة عملي، والمكتبات التي وصلت إلى كل القرى والنجوع، فعندما رشحت للوزارة لأول مرة، لم أهبط عليها بالباراشوت فأنا ابن هذه المنظومة، وأدرك ما تحتاج إليه، وقد فعلت ما يلبي احتياجاتها”.

المتحف الكبير.. من الفكرة حتى التنفيذ

وفي إطار إدراكه العميق لاحتياجات مصر الثقافية، كان من أبرز ما أنجزه في هذا السياق، فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير.

كان ذكر اسم المتحف كافياً ليعيد ترتيب جلسته، ويأخذ نفساً طويلاً، قبل أن يقول بنبرة متحمسة: “كنت في معهد العالم العربي بباريس، حين استفزني صديق إيطالي بقوله ساخراً: ماذا ستفعلون في المخزن الذي عندكم؟ وكان يقصد متحف التحرير المكتظ بالآثار. والحقيقة أنه في كل مرة كنت أزور فيها المتحف، يصيبني صداع من الزحام والظلمة، وكنت أبحث عن حل، ولكن سؤاله الساخر فجّر الفكرة في رأسي. قلت له: سننشئ أكبر متحف للآثار في العالم”.

ويضحك قليلاً، ثم يكمل: “فوجئت بعرض منه للتواصل مع رئيس وزراء بلاده لدعم المشروع، وعدت إلى القاهرة، وعرضت الأمر على الرئيس مبارك، الذي سألني عن التمويل، فأخبرته بإمكانية الحصول عليه من دول مانحة مثل إيطاليا، فرحب بالفكرة، وطلب البدء في التنفيذ فوراً”.

ويضيف، كاشفاً عن أحد فصول هذه المبادرة الجريئة: “أعلنت عن مشروع المتحف في أوروبا قبل عرضه على الرئيس، لأنني كنت أعرف طموحاته، وكان لديّ رد عملي على السؤال المتوقع: التمويل. وبالفعل، لم يزد حواري مع الرئيس عند عرض المشروع عن سؤاله عن التمويل، فأخبرته أن أي مشروع عظيم يمكن أن يُجلب له تمويل مناسب”.

وبحماس لم يخفه، يروي كيف بدأ اختيار الموقع، وإعداد دراسة جدوى استمرت أربع سنوات، شملت حتى تحليل تربة الأرض ومدى تحملها للزلازل، ثم يتنهد، كمن يتذكر أمنية لم تكتمل: “كنت أتمنى أن تكون واجهة المتحف من حجر الألباستر الشفاف، لكن الكميات في مصر لم تكن كافية، واستيراده من تركيا أو اليونان كان مكلفاً جداً، فاخترنا بديلاً يجمع بين الرخام والزجاج السيكوريت. لكن يبدو أن التمويل أعاق التنفيذ”.

وبابتسامة فخر، يتحدث عن زيارته للمتحف بدعوة من الوزير ومديره الحالي، قائلاً: “شعرت بالبراح الذي كنت أتمناه، فالمساحات الواسعة التي تليق بالآثار، تمنح الزائر فرصة تأمل التفاصيل، فالقطعة الأثرية لا تُعرض في ركن مظلم مكتظ، بل في فضاء مفتوح يليق بتاريخها”.

ثم يتوقف قليلاً، ويضيف بنبرة هادئة: “لم يكن يشغلني اختياري في مجلس أمناء المتحف، فأنا أديت مهمتي وانتهيت منها، وهي اختيار مكان المتحف، ووضع التصميمات، وبناء المرحلة الأولى والثانية”.

ثم، كمن يعترف بجميل صادق، يقول: “يُحسب للإدارة المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي استكمال المشروع، والاستجابة لرسالة أرسلتها للرئيس طالبته فيها بإعطاء هذا المشروع أولوية. وقد استجاب للرسالة بعد زيارة قام بها للمنطقة، وأضافت الإدارة الحالية للتخطيط السابق تطويراً كبيراً في الطرق المحيطة به لتسهيل الوصول”.

وبسؤال عن عضوية مجلس الأمناء، قال بصراحة خالية من المجاملة:”اختيار الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، أمين عام منظمة السياحة العالمية، في مجلس أمناء المتحف، يرجع لقيمة الشخص ومكانته بالدرجة الأولى. لكن عندما يُضاف لذلك أنه إماراتي، فهذا مكسب إضافي، لأن الإمارات دولة شقيقة تربطها بنا علاقات قوية”.

المتحف الكبير يمنح آثارنا مساحة تستحقها بعيدا عن الزحام والظلام

اختيار الشيخ طحنون بن زايد في مجلس الأمناء مكسب كبير

الرئيس السيسي أعطاه الأولوية بعد زيارته للمنطقة

سؤال ساخر أشعل فكرة إنشائه.. وحلمي بواجهة “الألباستر” تعثر بالتمويل

أتمنى اكتشاف مقبرة “إمحوتب” لتكون نواة لقاعة العباقرة

أتمنى عودة رأس نفرتيتي وحجر رشيد لضمهما للمتحف

أخشى إهمال متحف التحرير.. وأنصح بتحويله لمركز دولي لعلم المصريات 

وعندما سُئل عن القطع الأثرية التي تمنى رؤيتها في أروقة المتحف، لم يتردد في الإجابة: “رأس نفرتيتي، وتمثال حم إيونو مهندس الهرم الأكبر، وحجر رشيد.. تلك القطع تمنيت وجودها هنا. الأولى والثانية في ألمانيا، والثالث في لندن. كان يتعين على تلك الدول أن تهدي هذه القطع للمتحف. لديها آلاف القطع، ولن يضيرها منحنا هذه القطع الفريدة”.

ويختم حديثه بنظرة تتجاوز الحاضر: “حتى يكون المتحف الكبير في مصاف المتاحف العالمية، يجب أن يكون حياً لا ينام، والطريق لذلك هو الأنشطة، والندوات، والمؤتمرات، وأقترح أن نربطه بمتحف التحرير بتحويل الأخير إلى مركز دولي لعلم المصريات. فمبنى التحرير نفسه تحفة معمارية يجب استغلالها، لا إهمالها”.

وحين سألته عن الحلم الأثري الذي يتمنى حدوثه، أشرق وجهه بابتسامة الأمل، قائلاً: “أن تُكتشف مقبرة إمحوتب، لتكون نواة لقاعة في المتحف الكبير أسميها (قاعة العباقرة)، تضم تماثيل لإمحوتب، مهندس هرم سقارة، وحم إيونو، مهندس الهرم الأكبر، وغيرهم من عظماء مصر القديمة”.

ثم قال كمن يعلن عن قناعة قديمة: “حين استثمرنا في كنوزنا بجدية، التفت إلينا العالم.. هذا هو الفرق بين أن نهدر ما نملك أو نحسن استخدامه”.

الثقافة والآثار في قارب واحد

وتحولت نبرة صوته فجأة إلى شيء من الحسرة الممتزجة بالغضب المكتوم قائلا: “دعني أقل لك شيئا بوضوح، لو كان هناك انفصال حقيقي بين الثقافة والآثار، كيف كنت سأفكر أصلا في مشروع مثل المتحف المصري الكبير؟ فمن قرر فصل الآثار عن وزارة الثقافة بعد 2011، ارتكب، من وجهة نظري، أسوأ قرار إداري في تاريخ العمل الثقافي المصري، فهذا القرار معناه ببساطة، أن الآثار ليست ثقافة، وصاحب هذا القرار، لم تكن لديه أدنى فكرة لا عن الثقافة، ولا عن الآثار”.

فصل الآثار عن الثقافة بعد 2011 .. أسوأ قرار إداري

الآثار لا قيمة لها دون فهم الثقافة .. والثقافة تموت دون حضارتنا

ثم رفع عينيه، وكأنما ينتظر اعترافا متأخرا من الزمن بقيمة ما يقول “الثقافة والآثار في قارب واحد، لا يمكن فصلهما، فالثقافة تعلم الناس كيف يحافظون على آثارهم، والآثار من جهتها تمنح الثقافة جذورها ومكانتها وهيبتها، والأثر لا قيمة له إذا لم نفهمه، وإذا لم نحسن تقديمه للعالم، وهذا دور الثقافة، والعكس صحيح، فالثقافة تذبل وتموت إذا لم تتكئ على حضارة نعتز بها ونفهمها”.

ثم صمت قليلا، وكأنما يُخاطب نفسه: “كأنك تفصل الرأس عن الجسد، أو الروح عن النص، فلا يستقيم الأمر”.

كواليس معركة اليونسكو

وكان لا بد من التوقف عند محطة بالغة الأهمية، وهي معركة اليونسكو التي يخوضها المرشح المصري الدكتور خالد العناني، التي سبق أن خاضها الوزير السابق بكل ما فيها من طموح وأمل وتحديات.

وحين تطرق الحديث إلى تلك التجربة، خيم شيء من الحزن على صوته، سرعان ما لفة بغلالة من الفخر قائلا: “أعتبر نفسي فائزا، رغم أنني لم أحصل على المنصب. كانت الأمور تسير في صالحي، ثم انقلبت فجأة، لأسباب لا علاقة لها بكفاءتي، بل بتوازنات سياسية لا سلطان لي عليها”.

وصمت للحظة، كما لو أنه يستعيد ما مضى، ثم قال بصوت منخفض، كأنما يحدث نفسه: “عندما أفكر في معركة اليونسكو، أشعر أن القدر كان رحيما بي. لقد أعفاني من عبء ثقيل، فلو فزت، لتحولت حياتي إلى سلسلة لا تنتهي من المعارك الإدارية والسياسية، وأنا رجل يحب النظام، يحب أن تسير الأمور بدقة ويكره الفشل، كنت سأُرهق نفسي كثيرا”.

خسرت منصب اليونسكو وربحت راحتي النفسية

أعتبر نفسي فائزا بمعركة رئاستها رغم عدم حصولي على المنصب

المنظمة بحاجة للاستقلال .. وكنت أخطط لجعلها قادرة على تمويل نفسها

فرصة المرشح المصري لرئاسة اليونسكو قوية.. ما لم تتدخل واشنطن

ثم ارتسمت على وجهه ملامح الحلم الذي لم يكتمل، وقال بصوت أشرق من جديد: “كان لدي مشروع كبير، كنت أنوي تأمين تمويل ذاتي لليونسكو، حتى لا تظل مرهونة بدول بعينها، أردتها مستقلة، حرة، قادرة على تنفيذ مشروعاتها دون أن تخضع لحسابات سياسية ضيقة”.

وعندما سألناه عن فرص الدكتور خالد العناني، أجاب بتفاؤل مشوب بالحذر: “أعتقد أن الظروف السياسية الآن أفضل بكثير مما كانت عليه وقت ترشحي، وقد يكون ذلك في صالح المرشح المصري، إذا لم يظهر مرشح مدعوم من الولايات المتحدة، ففرصته ستكون قوية، فالقوة الأمريكية ما زالت فاعلة، خصوصا في مجتمعات دولية هشة، تتأثر ولا تؤثر”.

واختتم كمن يسلم الراية لمن بعده: “أتمنى له النجاح، فنجاحه سيكون نجاحا لمصر، وللثقافة المصرية، التي لا تزال قادرة على أن تنير العالم، إن وجدت من يحملها بإخلاص”.

العلاقة مع الإمارات.. فكرية وعاطفية

ثم سادت لحظات من الصمت، وكأن شيئا في داخله انكسر، أو تفتح على ذكرى أخرى. فالحكاية لم تنته عند معركة خاسرة، بل بدأت من بعدها حكاية أخرى، أشد خصوصية، وأقرب إلى القلب.

رفع فنجان القهوة برفق، ثم قال بنبرة امتنان هادئة، امتزج فيها الشخصي بالسياسي: “حين تخلت عني السياسة في معركة اليونسكو وبعد ثورة 25 يناير، فتحت لي الإمارات باب القلب”.

وحين سألته عن التفاصيل، أخذ يتأمل لحظة ثم قال بصوت تغلفه عاطفة دفينة: “علاقتي بالإمارات علاقة فكرية وعاطفية، فبعد ثورة يناير، وصعود جماعة الإخوان إلى الحكم، مررت أنا ومصر بفترة شديدة القسوة، وكانت الإمارات وقتها الحضن الذي احتواني، وأمدني بما أفتقده من الأمان والسكينة”.

توقف قليلا، كما لو كان يستعيد تلك اللحظات، ثم تابع: “لم أكن أتوقع كل هذا القدر من الاحتواء والتقدير لفنان خرج من المنصب، كنت أظن أن من يرحل عن الكرسي يُنسى، لكنهم خيبوا ظني، منحوني كل سبل الراحة، ولذلك زاد إنتاجي الفني خلال فترة إقامتي هناك بصورة غير مسبوقة”.

وعندما ذكرنا له زيارته القديمة للإمارات، أضاء وجهه بابتسامة دافئة: “تقديري للإمارات قديم.. زرتها مرات كثيرة. أذكر حين التقيت الشيخ زايد، رحمه الله، مع وزراء الثقافة العرب، وكان هو من اختصني بإلقاء كلمة الوزراء، لكن ما غلف هذا التقدير لاحقا كان العاطفة.. لقد تضاعف الاحترام والمودة بعدما رأيت كيف استقبلوني في أحلك ظروف حياتي”.

حين احتضنتني الإمارات.. رسمت علمها دون أن أدريكنت أظن أن من يغادر المنصب يُنسى.. لكن الإمارات خيبت ظني بحبهاأقمت في باريس وروما.. لكن دبي خطفت قلبيلم أكن متحمسا في البداية لمتحف اللوفر أبوظبي.. ثم أبهرتني جرأتهكل مبنى في دبي له شخصيته.. إقامتي هناك فجرت طاقتي الإبداعية

ويشير إلى إحدى لوحاته، ثم يروي لنا حكاية مؤثرة: “هذه اللوحة.. قالوا لي إنها تشبه علم الإمارات، وفعلا عندما نظرت إليها، شعرت أنني رسمت العلم لاشعوريا، كتعبير صادق عن مشاعري نحو هذا البلد. لذلك، حين جاء معرض آرت دبي 2019، أهديت اللوحة للإمارات وسميتها: (تحية إلى الإمارات)”.

وضحك قليلًا وهو يتذكر قراره بالعيش هناك: “لم أكن أتصور قط أن أعيش في دولة عربية غير مصر. كنت دائما أميل إلى باريس وروما، حيث عشت سنوات طويلة. لكن حين تلقيت عرضًا من الأشقاء في الإمارات للإقامة بدبي، فضلتها عن باريس وروما، وأنا الذي أقمت فيهما حين كنت شابا، وكنت أحب روما أكثر من باريس”.

ثم رفع عينيه إلى الأعلى وكأنه يسترجع تفاصيل المدن: “باريس مدينة (عايقة)، وأنيقة، أما روما، فهي عريقة، تحمل التاريخ في كل حجر، ومع هذا، دبي أخذتني بعمارتها المتنوعة، كل مبنى فيها له شخصية مختلفة، وأنا عاشق للعمارة، فهي أم الفنون، فالحركة في دبي مثل حركة الفنان على لوحته، لهذا امتلأ مرسمي بالأعمال هناك”.

ثم تحدث بصدق عن متحف اللوفر – أبو ظبي: “في البداية لم أستسغ الفكرة، لكن عندما زرته، وجدت نفسي أمام مشروع جريء، يشكل حافزا حقيقيا للإبداع”.

 ويسترجع تفاصيل يوم الافتتاح: “رغم أنني لم أكن في حالة صحية تسمح لي بالحضور، أصر الأشقاء في الإمارات على وجودي في حفل الافتتاح، وقدموا لي كل وسائل الراحة، وهذا لا يحدث إلا عندما تكون العلاقة أكثر من رسمية.. تكون أشبه بالأخوة”.

إبداع فضائي.. وطقوس فنية

وبينما كنا لا نزال في تلك المساحة العاطفية، خطفني الفضول إلى منطقة أخرى، علمت من مدير أعمله أن له قراءات متنوعه فيها، وهي العلم وتطوراته، فقلت له: ربما يشجعني ذلك على سؤالك عن برنامج الفضاء الإماراتي، فلم ينتظر أن أكمل سؤالي، ورد على الفور بنبرة متحمسة: “هو إبداع علمي، وترجمة لتوجه حقيقي للتقدم والتفوق، وليس من أجل “الشو” والاستعراض. وأقول لمن يدّعي أن هذا البرنامج لا ينعكس على حياة البشر، إنه لو كان كذلك، لما أقدم الأوروبيون والأمريكيون عليه.. وإذا لم ترد أن تشجع الإماراتيين على توجههم، فلتصمت، أفضل. هم لم يأخذوا منك شيئا، إنما ما يفعلونه هو بأموالهم، وستكون نتائجه في خدمة الإنسانية، وفخر لهم وللعرب جميعا”.

قلت له مازحا: هل يمكن التعبير عن هذا البرنامج في لوحة فنية؟ فضحك، ضحكة خفيفة كشفت عن ارتياحه، ثم قال: “أنا لوحاتي فضائية قبل بدء هذا البرنامج!”.

لكن ملامحه ما لبثت أن استعادت الجدية، وقال بتأمل عميق: “الفن التجريدي طاقة، وفلسفة، لا ملامح محددة لها. لذلك سيكون من الصعب أن أترجم برنامج الفضاء إلى لوحة مباشرة. لكنه قد يخرج من داخلي بلا وعي، كما حدث في لوحة الإمارات”.

سألته ممازحا عن آراء الناس الذين لا يفهمون لوحاته، فابتسم ابتسامة واثقة وقال: “لا يزعجني ذلك أبدا، لأنني لا أرسم لوحات لكي تُفهم، بل لكي تُحس. فكما أن الموسيقى لا تقول كلاما، فإن لوحاتي كذلك.. هي موسيقى مرئية، عبارة عن إيقاعات لونية تتعامل مع الوجدان”.

أشرت إلى لوحة معلقة أمامنا فضحك قائلا: “هذه تقريبًا المرة الرابعة التي أدخل فيها هذا المكان، وفي كل مرة يصلني منها إحساس مختلف”.

فضحك وقال: “وهذا هو النجاح الحقيقي، أن تتغير مشاعرك أمام اللوحة. الفن التجريدي يحتاج إلى رؤية متكررة، وكل مرة تفتح لك بابا مختلفا”.

ثم دخلنا إلى دهاليز روحه، حين سألته عن الرسم، فقال بصوت يحمل شيئًا من الإرهاق الجميل: “الرسم في الفن التجريدي مرهق جدا، ويحتاج إلى طاقة رهيبة، فهو ليس منظرا طبيعيا ترسمه في دقائق، لذلك فإن أعمالي قلت في الفترة الأخيرة، لأني تقدمت في السن، ولم أعد أملك نفس الطاقة”.

البرنامج الفضائي الإماراتي ليس استعراضا.. بل مشروع علمي لخدمة الإنسانيةلوحاتي فضائية قبل بدء البرنامج الإماراتيسألناه هل يمكن أن ترسمه في لوحة فأجاب: ربما تخرج من داخلي بلا وعيلوحاتي لا تُفهم.. بل تُحسالإيقاعات اللونية عندي مثل الألحان.. ولوحاتي موسيقى مرئيةمرسمي بجوار غرفة نومي.. وأرسم حين تستيقظ الدفقة الفنية بعد القيلولةلوحاتي ذات الوجوه المتعددة.. تتبدل مشاعرك وتظل هي ذاتها

وكمن يزيح الستار عن عالمه الخفي، بدأ يصف طقوسه في الرسم قائلا: “لا بد أن يكون المرسم قريبا من غرفة النوم. أحيانا أغفو بعد الظهر، وأستيقظ بداخلي دفقة فنية، أشعر بحاجة فورية لإخراجها على اللوحة، ولا بد أن يكون هناك صوت موسيقى عالٍ، فالألحان الموسيقية عندي تتحول إلى ألحان مرئية، فالألوان تصبح نغمات، واللوحة تصبح مقطوعة موسيقية تُعزف على القماش”.

سؤال من عالم السياسة

وبينما كان يرسم بكلماته طقوسه الخاصة في عزلته الفنية، خطر لي سؤال من عالم آخر تماما، عالم كانت الأضواء فيه لا تنطفئ.. فقلت له: “هناك شيء لافت في إدارتك للثقافة، أنك كنت تترك لمرؤسيك حرية التصريح والظهور الإعلامي”.

هزّ رأسه مبتسمًا “لا بد لمن يعمل معي أن يأخذ وضعه الذي يستحقه، حتى يعطي بسخاء وجهد، وفي النهاية النجاح ينسب للوزارة التي أترأسها”.

تذكرت عندها اسم زاهي حواس، الاسم الذي طالما ارتبط بفترة وزارته، فسألته إن كان وجود نجم مثله بجواره قد سبّب له قلقا أو حساسية كما حذر بعض الوزراء، فابتسم بذكاء وقال دون تردد: “زاهي حواس نجم، وأنا نجم النجوم”.

ضحكنا، قبل أن يضيف بنبرة أكثر جدية: “كثير من الوزراء أخافوني منه، قالوا لي إنه يبرز نفسه بشكل مبالغ فيه، وقد يسحب البساط من تحتي، لكنني كنت أرى أنه يمثل مصر بطريقة جميلة، وفي النهاية نحن نعمل للثقافة المصرية، وليس لأنفسنا”.

حين منحتُ الثقة لفريقي منحوني إنجازات تبقى في رصيديزاهي حواس نجم.. وأنا نجم النجومأداءه في بودكاست “جو روغان” لم يكن غرورا بل رد فعل على استفزازاتهديتي لبلدي: متحف خاص.. يفتح أبوابه قريبا

وعندما ذكرته بظهور زاهي الأخير في بودكاست “جو روغان”، حيث اتهم بالغرور، قال بهدوء المفكر: “ربما يُعاب عليه فقط نبرة عدائية قليلا، لكنها كانت رد فعل على استفزازات المذيع. أما حديثه المتكرر عن كتابه، فلم يكن تباهيا، بل محاولة ليقول للمذيع: اقرأ أولاً، ثم ناقشني”.

وحين اقتربنا من ختام الحوار، انتقلت نبرته إلى شيء يشبه الوعد، حين سألته عن متحفه الشخصي. فأجاب بنبرة امتنان لا تخفى: “سيفتتح خلال شهرين أو ثلاثة، وستكون به أعمالي، وأعمال كبار الفنانين الأجانب اللي اقتنيتها، وسيكون تحت مظلة مؤسسة فاروق حسني الثقافية، وستؤول ملكيته للدولة، وسيكون رافدا جديدا من روافد الثقافة المصرية.. وهديتي الخاصة لبلدي”.

المصدر: «العين الإخبارية»

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى