
في زمن يتغير فيه كل شيء، ويُعاد فيه رسم خرائط النفوذ والمصالح في المنطقة، لا يمكننا أن نستمر في ترديد الأسطوانة المشروخة: “مصر أم الدنيا، مصر قلب العروبة، مصر قائدة الأمة”… فهذه الشعارات، مهما كانت دافئة في الذاكرة، لم تعد تصنع واقعًا، ولا تُحرك حجرًا.
مصر، ببساطة، أصبحت على الهامش. دولة بلا أوراق ضغط حقيقية. بلا رؤية إقليمية واضحة. بلا أدوات قادرة على المناورة أو التأثير.
ما الذي حدث؟ ولماذا خرجت مصر من المشهد؟
ليس الأمر مؤامرة. وليس لأن الخليج “سرق الضوء” من القاهرة. الحقيقة أكثر بساطة وألمًا: مصر قررت أن تعيش في الماضي.
ما زالت تدار بعقلية ضباط الستينيات.
ما زالت تعتقد أن نشر بيان عسكري أو عرض فيلم قديم يكفي لصناعة هيبة.
ما زالت تعيش على أمجاد أم كلثوم وعبد الناصر، بينما العالم يسابق الزمن.
العالم تغيّر. ومصر لم تتغيّر. ومن لا يتغيّر… يُستبعد.
الخليج تغيّر… فصنع الفارق
انظر حولك الآن، بصدق ودون عواطف:
من يقود دبلوماسية التأثير؟ قطر.
من يبني أسرع اقتصاد غير نفطي؟ السعودية. من يشتري الإعلام والرياضة والثقافة؟ الإمارات.
الرياض أصبحت أكثر تأثيرًا من القاهرة. الدوحة تُدير مفاوضات أكثر تعقيدًا من جامعة الدول العربية. أبوظبي تُصدّر مشاريع، بينما القاهرة تُصدّر أزمات.
الفرق لم يكن المال فقط. الفرق كان في الرؤية، في الجيل الجديد من القادة: محمد بن سلمان، تميم بن حمد، وشباب زايد… هؤلاء يتحدثون بلغة العصر، يفكرون بالمستقبل، ويخططون لما بعد النفط، بل لما بعد الجغرافيا. أما مصر؟ مصر يُديرها جنرالات تقاعدوا ذهنيًا قبل أن يتقاعدوا رسميًا.
الحقيقة التي لا تُقال
نحن، في العالم العربي، ما زلنا “نجامل” مصر، لأننا نخشى مواجهة الواقع. لكن، الحقيقة الجارحة التي يجب أن تُقال:
مصر اليوم ليست دولة قيادية… بل دولة مُستهلكة للتأثير.
حتى في السودان، كانت القاهرة حاضرة “بالتدخل السافر”.
في ليبيا، لم تفعل شيئًا سوى البيانات. في غزة، أصبح السقف المصري أقل من سقف الدوحة وأنقرة.
المصريون أنفسهم يعرفون ذلك، ويتهامسون به، لكنهم عاجزون عن قولها بصوت مرتفع: “العسكر قيدونا، وأطفأوا النور.” لذلك نحن نُعوّل على الخليج، حين نُراهن اليوم على الخليج، لا لأننا ضد مصر، بل لأننا مع الواقع. الخليج يملك:
المال،
القرار،
الرؤية،
والشباب.
مصر تملك:
التاريخ،
البيروقراطية،
الشعارات.
ومع كامل الاحترام للتاريخ… التاريخ وحده لا يبني غدًا.
وختامًا
لماذا خرجت مصر من المعادلة؟ لأنها أصرت أن تكون “كبيرًا” بالذاكرة، لا بالفعل.
ولماذا تقدم الخليج؟ لأنه آمن أن القيادة ليست وراثة تاريخ، بل صناعة مستقبل.