
في اللحظة التي كانت فيها غزة تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت القصف، وتُسحق ببطش آلة الاحتلال، لم تكن تنتظر طائرات، ولا دبابات، ولا حتى مؤتمرات.. كانت فقط تنتظر موقفًا.
كانت تنتظر من مصر أن تفتح ذراعيها.. فإذا بها تُغلق المعبر، وتفتح السجون!
في مشهد موجع للقلب قبل العقل، انطلقت “قافلة الصمود” من بلاد المغرب العربي… شباب ونساء، أطباء وحقوقيون، كلهم جاءوا لا يحملون سلاحًا ولا هتافًا.. فقط يحملون وجع غزة.
جاءوا ليقفوا على عتبة رفح، يطرقون باب الكرامة باسم الشعب العربي، لا باسم الأنظمة.. طرقوا الباب وانتظروا، لكن الباب لم يُفتح، واليد التي مدّوها قُطعت.
لم يكتف النظام بمنعهم من الدخول.. بل اعتُقل بعضهم، وتم التحقيق مع آخرين، وتُركوا لساعات طويلة في العراء، وكأن التضامن مع غزة أصبح تهمة، وكأن الاقتراب من حدود فلسطين صار جريمة أمنية.
في لحظة الحقيقة، كان يُفترض أن تُفتح بوابة رفح للتاريخ.. فإذا بها تُغلق لتفتح زراعيها للعار يلاحقها طيلة العمر!
فكيف نفسّر هذا الموقف الرسمي المصري؟
هل باتت الحدود أكثر قدسية من الدم الفلسطيني؟
هل صار المرور إلى غزة أخطر من المرور إلى العار؟
وهل أصبح على المتضامن أن يطلب تأشيرة من آلة القمع قبل أن يرفع راية التضامن؟
القضية لم تعد فقط في المعبر المغلق، بل في الرسالة المعلنة:
أن من يتضامن مع غزة دون تنسيق سياسي مسبق.. فمصيره الاعتقال أو الترحيل!
أي مهزلة تلك؟
أي سقوط أخلاقي أن يتحوّل دعم المقاومة إلى عمل غير شرعي؟
هل سمعتم عن دولة تعتقل المتضامنين مع شعب تحت الحصار؟
ألم تكن القاهرة هي من احتضنت حركات المقاومة يومًا؟
ألم تكن مصر هي القلب النابض للقضية، فإذا بها اليوم ترسل رسالة واضحة “لا تدخلوا من بابنا… فأنتم تُحرجون صمتنا!”
غزة انتظرت كثيرًا.. كانت تعرف أن الأنظمة العربية صمّاء.. لكنها كانت تظن أن مصر لن تخذلها، لكنها خذلتها.
خذلتها يوم اختارت الحسابات على الدم، والحدود على الحرية، والسيادة الشكلية على الأخوة الفعلية.
ومع ذلك، لن تنكسر غزة، ولن تموت الفكرة.
القوافل التي تم منعها اليوم ستعود بألف شكل.
أما من ظنّ أن إغلاق المعبر يُنهي التضامن، فليقرأ التاريخ جيدًا.
غزة تعلّمت أن تصنع طريقها وحدها.. لكنها كانت تحلم أن لا تُطعن من أقرب جدار.
الذين تم اعتقالهم أو احتجازهم في مصر، لم يكونوا مجرمين ولا مخربين.. كانوا شهودًا على لحظة السقوط.
وكانت السلطات المصرية في تلك اللحظة… هي الطرف الذي قرر أن يكون “الحاجز”، لا “الجسر”.
عندما تقف الدولة بين شعبها وبين قضية فلسطين، فهي لا تدافع عن سيادة.. بل تشتري الخنوع.
وعندما تُغلق البوابة في وجه المتضامن.. فهي تفتح ألف باب للسؤال “هل لا تزال مصر مع فلسطين… أم فقط مع خطاب لا يُحرج الاحتلال”؟
نعم، غزة انتظرت مصر.. ولكن مصر الرسمية خذلتها.
خذلتها أمام التاريخ، وأمام الشعوب، وأمام ضمير الأمة.
لكن غزة لن تنتظر طويلًا، ولن تتوسل معبرًا..
لأن الكرامة لا تعترف بالبوابات،
والمقاومة لا تحتاج ختمًا من الأمن،
بل من الضمير.