منع قافلة الصمود: النظام المصري بين التواطؤ السياسي والجريمة الإنسانية في غزة- تحليل مركز حريات-

أولًا: مقدمة – حين تفضح الرمزيةُ الحقيقة
لم تكن “قافلة الصمود” مجرد تحرك إنساني تضامني، بل لحظة كاشفة لما وراء الجدران المغلقة. فعشرات النشطاء من مختلف الجنسيات العربية والدولية، نساءً ورجالًا، قصدوا الحدود المصرية مع قطاع غزة، لا لتهريب سلاح أو اقتحام معسكر، بل لطرق بابٍ يُفترض أنه الأمل الأخير لإنقاذ ما تبقى من شعب يُباد.
لكن الرد جاء فوريًا ووحشيًا: اعتقالات، ترحيل قسري، احتجاز بدون سند قانوني، وتحريض إعلامي ضد القافلة، في مشهدٍ يكشف أن منع القوافل لم يعد قرارًا أمنيًا عابرًا، بل سياسة ممنهجة تُمارسها الدولة المصرية كجزء من مشروع حصار غزة، الممتد منذ ما يقرب من 20 عاما.
ثانيًا: تفاصيل المنع – من الاعتقال إلى التنكيل الإعلامي
تعرض أعضاء القافلة – التي اتجهت من تونس مرورًا بليبيا في طريقها إلى معبر رفح – لمضايقات متعددة شملت:
- منع دخولهم الأراضي المصرية من المنفذ الغربي (السلوم).
- احتجاز بعضهم وتعريضهم للتحقيقات المخابراتية.
- ترحيل عدد منهم إلى بلدانهم أو مناطق أخرى رغم كونهم في مهمة إنسانية.
- شن حملة إعلامية رسمية ضد القافلة، واتهامها بـ”التحريض” و”خدمة أجندات خارجية”.
كل ذلك بينما لا تحمل القافلة سوى رسائل إنسانية ومطالب رمزية بفتح معبر رفح، وإنهاء الحصار الذي تحول لإبادة جماعية.
ثالثًا: الدلالات الكبرى – من الذي يُحاصر غزة فعليًا؟
الحصار المفروض على غزة منذ 2006 وُصف دائمًا بأنه حصار “إسرائيلي”، لكن الواقع الميداني والسياسي والقانوني يُثبت أن:
- المعبر الوحيد الخارج عن السيطرة الإسرائيلية هو معبر رفح، ويخضع بالكامل لسلطة الدولة المصرية.
- أن إسرائيل – رغم أنها الطرف المحتل – تُمارس الحصار من الجو والبحر، بينما تُطبّقه مصر فعليًا من الجنوب.
- أن منع المساعدات، والمرضى، والقوافل، والمسافرين، لا يتم من قِبل إسرائيل فحسب، بل من قِبل نظام السيسي بشكل يومي.
بمعنى آخر: السيسي لم يعد شريكًا في الحصار، بل المسؤول التنفيذي الأول عن استمراره، بعدما أصبح المعبر الأهم في يد نظام يربط فتحه باعتبارات سياسية وتحالفات إقليمية.
رابعًا: المسؤولية القانونية – نظام السيسي في مرمى الاتهام
بموجب القانون الدولي الإنساني، فإن:
- منع الإغاثة الإنسانية في أوقات الحرب يُعد جريمة.
- القوافل المدنية التي لا تحمل تهديدًا أمنيًا تعتبر محمية قانونًا.
- الجهة التي تمنع الممر الإنساني أو تغلقه تتحمل المسؤولية المباشرة عن الأذى الناتج، سواء من المجاعة، أو نقص الدواء، أو عدم خروج الجرحى.
وبالتالي، فإن منع قافلة الصمود – وخاصة في ظل إبادة جماعية موثقة – يُضع النظام المصري تحت طائلة المسؤولية القانونية والأخلاقية والجنائية، بوصفه متواطئًا في جريمة مستمرة ضد الإنسانية.
خامسًا: الأضرار التي لحقت بالنظام المصري
1. داخليًا:
- انكشاف زيف الخطاب الرسمي القائل إن مصر محايدة أو وسيطة في الصراع.
- تصاعد الغضب الشعبي داخل مصر تجاه تورط النظام في حصار الشعب الفلسطيني.
- فقدان شرعية أخلاقية متبقية كان النظام يحاول الحفاظ عليها في سياق القضية الفلسطينية.
2. خارجيًا:
- إحراج دولي واسع بعد تداول صور القافلة والممارسات ضدها.
- مقارنة محرجة مع مواقف دول كجنوب إفريقيا وماليزيا وتركيا، التي وقفت بوضوح مع غزة، بينما تُمنع القوافل في قلب العالم العربي.
- تراجع في صورة مصر إقليميًا كدولة مركزية، وتحولها في أعين الشعوب إلى طرف في معسكر التطبيع والتواطؤ.
سادسًا: في الرواية الإعلامية – من انتصر؟
على الرغم من محاولة الأجهزة المصرية تشويه صورة القافلة إعلاميًا، إلا أن النتيجة جاءت معاكسة:
- حظيت القافلة بتعاطف واسع عربيًا وإسلاميًا.
- تحولت القضية إلى وسيلة لكشف الوجه الحقيقي للنظام المصري.
- أعادت طرح سؤال: من العدو الحقيقي للمقاومة؟ إسرائيل فقط، أم من يغلق المعابر أمامها؟
سابعًا: التوصيات والسياسات المطلوبة:
- إطلاق حملة قانونية دولية لتحميل النظام المصري المسؤولية القانونية عن منع المساعدات.
- تكثيف الجهود الإعلامية لكشف التواطؤ الرسمي العربي، خاصة المصري، في استمرار الحصار.
- دعم القوافل المدنية الشعبية كمصدر إزعاج أخلاقي وسياسي للأنظمة المتواطئة.
- إعادة تعريف الحصار دوليًا بأنه حصار إقليمي إسرائيلي–مصري، وليس إسرائيليًا فحسب.
- مطالبة المنظمات الدولية باعتبار معبر رفح ممرًا إنسانيًا دائمًا لا يُغلق تحت أي ذريعة سياسية.
- توسيع دائرة التضامن مع النشطاء الذين تم ترحيلهم أو اعتقالهم بوصفهم ضحايا لا مجرمين.
ختام: القافلة التي كسرت جدار الصمت
ما من شيء أكثر تعبيرًا عن عدالة القضية الفلسطينية من مشهد قافلة إنسانية تُقمع على أيدي نظام يدّعي دعم فلسطين. وما من شيء أكثر إدانة لهذا النظام من أنه يرى في صوت الحق خطرًا، وفي رسالة السلام تهديدًا.
لقد كشفت قافلة الصمود أن من يُغلق المعبر، يفتح بوابة الإدانة على نفسه. وأن التاريخ لن ينسى من حاصر، كما لن ينسى من حاول أن يُنقذ، ولو بلا سلاح.