شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: أربعة حروف ومصادفة غيّرت حياتي . ورقة من مذكّراتي

ربما لم أكن تجاوزتُ السادسة عشرة من عمري، وكانت بداياتي كقارىء تحمل نَهم الباحث عن معنى، وعن طريق، وعن ذاتٍ تتلمّس صورتها في المرايا المرتبكة. كنت أترصّد كل كلمة يكتبها الأستاذ مصطفى أمين، ذاك الرجل الذي صار في وجداني مزيجًا من الأب والقدوة والفكرة. وكنت أعلم أن لديه كتابًا يحمل عنوانًا غريبًا ومغريًا في آن: “لا”.

كنتُ أبحث عن هذا الكتاب كما يبحث طفلٌ عن لعبته الضائعة في أسواق الحواديت، فلا أجده. أفتّش بين أرفف المكتبات القديمة، وعند باعة الصحف المتجولين، وفي خزائن الورق المتهالك. وفي لحظة عابرة، كُتب لها أن تُصبح فاصلة، وقعت عيني على طرف كتابٍ صغير أحمر، قرأت عنوانه بسرعة، فظننته هو: “لا”. خطفتُه من بين الكتب، وقبل أن أستوعب أن عنوانه الكامل هو “لابد”، كنت قد انغمست في صفحته الأولى…

وكانت الصفعة الأولى التي صارت يقظة:

لا بد أن نسيرْ!

  • ونجرفَ الأقدارَ من طريقنا الكبيرْ
  • ونعصرَ الرياحَ في تلفُّت المصيرْ
  • ونصعقَ الهشيمَ في احتضاره الأخيرْ…

ما قرأته لم يكن شعراً، بل كان نداءً، كان طَرقاً على جدار قلبي، كان نفيراً داخلياً يهمس ثم يصرخ: لا وقوف بعد اليوم… لا عكوف عن الدرب…

تساءلت لحظتها: من هذا الذي يكتب بمطرقة اللهب؟ من هذا الذي يسكب في الشعر معنى الثورة؟

كان اسمه محمود حسن إسماعيل.

وكان اسمي، حينها، طفلًا يوشك أن يُولد من جديد.

“انصهر القيد… ذابت غشية الظلام… انداحت جموع الزحام…”

عبارات ما زالت ترنُّ في أذني، لا كموسيقى، بل كخطة سير. لم أكن أدري أن هذه القصيدة ستُعيد ترتيب دماغي، وأن تلك “المصادفة” ستنبت في داخلي “ضرورة”.

ومن يومها تغيّر سؤالي من: “ماذا أقرأ؟” إلى “لماذا أقرأ؟ ومن أجل من؟”

تحوّلت القراءة من نزهةٍ عقلية، إلى مشروع وعي.

ومن لحظة الخطأ في العنوان، بدأت الصواب في الطريق…

أربعة حروف: لابد… لم تكن عنوان كتاب فقط، بل كانت نداءً وجوديًا:

  • لابد أن تمشي، حتى لو وحدك.
  • لابد أن تحلم، حتى لو سخروا من حلمك.
  • لابد أن تصرخ، حتى لو لم يسمعك أحد.

لابد أن تسير، في دربك الكبير، حتى لو تراكمت الحواجز، وتقنّع الهجير، ونام الجميع.

لم أكن أفهم تمامًا ما هي الثورة. لم أكن قرأت “العقد الاجتماعي”، ولا “الجمهورية”، ولا “ما العمل؟”، ولا خطب سعد زغلول الكاملة. لكنني فهمت شيئًا واحدًا:

أن هنالك شيئًا ما في داخلي، يستيقظ ليكتب، ويصرخ، ويتّخذ موقفًا.

ربما من هنا بدأت أولى خطواتي نحو السياسة…

ليس من لافتة حزبية، ولا من اجتماع تنظيمي، بل من بيتٍ صغير من الشعر، كان كفيلًا بأن يهزّ العمق، ويصنع الزلزال.

تلك المصادفة لم تعرّفني فقط على شاعرٍ بحجم محمود حسن إسماعيل، بل عرّفتني على نفسي.

ومن يومها، لم أعد أنظر إلى الأدب كترف، ولا إلى الشعر كزينة. بل رأيت فيه خندقًا آخر من خنادق النضال.

في تلك السن، كنت قد بدأت أكتب محاولات متواضعة. كنت أرسل خواطري إلى الصحف، وبعضها يُنشر، وأكثرها يُهمَل. لكن شيئًا ما تبدّل بعد تلك القصيدة… صرتُ أكتب بصوت أعلى، وأقرأ بعين أوسع، وأسأل عن العالم لا عن ذاتي فقط.

بعد سنوات، حين التقيت الأستاذ مصطفى أمين لأول مرة، حكى لي عن قصة كتابه “لا”، وسألني مازحًا: “كيف عرفت أنك ستقولها كثيرًا في حياتك؟”

قلت له بصدق:

“كنت أبحث عن لا… فوجدتُ لابد… وكِلتاهما علّمتني أن لا أسكت!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى