
تتسم الحرب غير المعلنة والممتدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والكيان الصهيوني بطابع استنزافي طويل المدى، يتخلله تصعيد محدود وتكتيكي ضمن “صبر استراتيجي” من الطرفين. يطرح هذا المقال تساؤلين جوهريين: من يمتلك مقومات الاستمرارية في هذا الصراع؟ ومن الطرف الأكثر عرضة للخسارة في المدى المتوسط والبعيد؟ للإجابة، نعتمد على تحليل شامل للمقومات النفسية والعقدية، والاقتصادية، والسياسية، والتاريخية، والجغرافية-السياسية لدى الطرفين.
وهذا يدعونا لقراءة في مقومات الاستمرارية والخسارة في أفق الصراع المفتوح بين الطرفين.
أولًا: البعد النفسي والعقدي.
إيران: المظلومية الشيعية والتحفز الثوري حيث تستمد إيران كثيرًا من شرعيتها النفسية من خطاب “المظلومية” و”الثورة الدائمة”، ما يعزز من قابليتها لتحمل التضحيات.
وكذلك منظومة ولاية الفقيه التى توفر غطاء دينيًا وسياسيًا يبرر الصبر والتصعيد على حد سواء، ويربط الصراع ببعد “وجودي” لا تكتيكي.
الكيان الصهيوني حيث يعانى من عقدة البقاء والخوف من الإبادة ويرتكز على قلق دائم من التهديدات الوجودية، ما يولّد حافزًا عدوانيًا كبيرًا لكنه يجعل الصبر محدودًا زمنيًا.
وأيضا تفكك الهويات الداخلية: التعدد الإثني والديني داخل إسرائيل ( أشكناز، سفاردي، روس، متدينون وعلمانيون ) يضعف الجبهة الداخلية نفسيًا في الصراعات طويلة الأمد.
النتيجة: تتفوق إيران من حيث الصبر الاستراتيجي النفسي والعقدي بفضل البنية العقائدية المتماسكة والتحمل الجمعي للأزمات.
ثانيًا: المقومات الاقتصادية.
إيران: اقتصاد مقاومة رغم العقوبات، يقوم على الاستغناء النسبي والانكماش الذاتي، مع اعتماد كبير على التهريب، والممرات غير النظامية، والاقتصاد الرمادي.
شبكة الحلفاء (حزب الله، الحوثيون، الحشد الشعبي) توفر لها أدوات ضغط غير مكلفة مباشرًا اقتصاديًا.
الكيان الصهيوني: انهاء اقتصاد متطور ومندمج في السوق العالمي، يعتمد على الاستقرار السياسي والدعم الغربي، خاصة الأمريكي.
حساسية الأسواق والاستثمارات لأي تهديد أمني، مما يجعل الاقتصاد هشًا أمام صراعات طويلة أو حرب شاملة.
النتيجة: تفوق نسبي لإيران في القدرة على التحمل الاقتصادي في صراع استنزافي، مقابل هشاشة إسرائيل رغم تفوقها المالي.
ثالثًا: المقومات السياسية والدبلوماسية.
إيران: محور مقاومة واسع يمنحها نفوذًا متعدد الأذرع.
وانقسام دولي حول سياساتها، لكنها تحافظ على علاقات قوية مع روسيا والصين ودول من أمريكا اللاتينية.
الكيان الصهيوني: دعم غربي قوي لا سيما من أمريكا وأوروبا، لكنه يتآكل مع تزايد المعارضة الشعبية في الغرب، خاصة بعد حرب غزة الأخيرة.
علاقات تطبيعية عربية، لكنها هشة ولا تصمد أمام التصعيدات الكبرى.
النتيجة: توازن في الدعم الدولي، مع ميزة لإسرائيل على المدى القريب، لكن تآكل الشرعية الدولية في المدى البعيد يصب في صالح إيران.
رابعًا: المقومات التاريخية والهوياتية
إيران: هوية قومية دينية ممتدة تتغذى من التاريخ الفارسي والإسلامي.
خطاب استمراري ضد الاستكبار والصهيونية منذ الثورة الإسلامية.
الكيان الصهيوني: هوية مصطنعة حديثة نسبيًا ترتكز على السردية التوراتية، لكنها تعاني من غياب التجذر الجغرافي والثقافي في محيطها، حاجة دائمة لإعادة إنتاج الشرعية أمام المجتمع الدولي والمحلي.
النتيجة: تفوق إيران في البعد التاريخي والهوياتي يضمن استمرارية العقيدة الصراعية.
خامسًا: المقومات الجيوسياسية
إيران: عمق استراتيجي واسع عبر العراق، سوريا، لبنان، واليمن.
قرب من مسرح العمليات (الجولان، الخليج، مضيق هرمز).
قدرة على نقل المعركة خارج حدودها.
الكيان الصهيوني: مساحة ضيقة ومحاصرة جغرافيًا.
محدودية العمق الاستراتيجي تجعله هشًا أمام تهديدات متعددة الجبهات.
اعتمادية عالية على التفوق الجوي والتكنولوجي، ما يجعله عاجزًا أمام حروب غير متماثلة.
النتيجة: إيران تملك تفوقًا جيوسياسيًا نوعيًا يجعل من استمرارية الصراع في مصلحتها، طالما لم تُجر إلى حرب شاملة تقليدية.
خلاصة واستنتاجات.
من يملك الصبر الاستراتيجي؟
إيران تمتلك مقومات الصبر الاستراتيجي على المدى البعيد بفضل التركيبة العقدية والنفسية، وتوزيع أدوات القوة خارج حدودها.
من يمتلك الاستمرارية؟
على المدى القصير والمتوسط، تمتلك إيران قدرة أكبر على الاستمرار دون انهيار سياسي أو اقتصادي، رغم الكلفة العالية.
من الخاسر؟
في حال استمرت المواجهة على نمطها الحالي دون حرب شاملة، فإن الكيان الصهيوني هو الخاسر تدريجيًا بفعل استنزاف الأمن والشرعية والدعم الدولي.
ختاما:
تُظهر المؤشرات أن “حرب الإرادات” بين إيران والكيان الصهيوني تميل لصالح إيران في المدى الطويل، ما لم تُفاجأ بحرب إقليمية شاملة تُغيّر قواعد الاشتباك جذريًا.
وفي ميزان الصراع المركب، من يملك القدرة على الصبر الاستراتيجي هو من يكتب مستقبل الجغرافيا السياسية في المنطقة.