
في عالم تحكمه المصالح وتتبدل فيه التحالفات بسرعة، لا يمكن لأمن أي دولة أن يقوم على الأمنيات والدعاء فقط. خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتشابك التهديدات وتتفاقم الصراعات، تصبح معادلة الردع النووي ضرورة استراتيجية للحفاظ على التوازن ومنع التفرد والابتزاز. فالسلاح النووي، رغم ما يثار حوله من مخاوف ليس أداة هجومية بقدر ما هو
( رادع Deterrent ) يحمي السيادة ويعيد رسم موازين القوى.
في هذا المقال القصير، نستعرض لماذا تبني قدرات نووية، أو دعم من يسعى إليها، يمثل خيارًا واقعيًا وضروريًا لدول المنطقة التي تسعى لاستقلال قرارها وأمنها.
بعيدًا عن العواطف والعقلية الطوباوية، وعن الأصوات غير المختصة التي تردد: “ادعوا أن يضرب الله الظالمين بالظالمين”، فإن الواقع الجيوسياسي لا يُدار بالدعاء ولا بالحياد، بل بالمصالح ومعادلات الردع.
وبعقلية استراتيجية ، فإن من مصلحة دول المنطقة إن أرادت حفظ أمنها الإستراتيجي واستقلال قرارها أن تمتلك أدوات الردع، وعلى رأسها السلاح النووي، أو على الأقل أن تدعم من يسعى إليه ضمن معادلة توازن إقليمي تمنع التفرد والابتزاز. التفرد “الإسرائيلي” بالقدرة النووية، مثلاً، لم يُواجَه بمحاولة نزع أو تحالف جاد لوقفه، بل على العكس، تقف بعض الأنظمة والإعلام العربي ضد أي محاولة لكسر هذا التفوق، رغم أن توازن الردع قد يخدمهم أكثر من خدمته لإسرائيل نفسها.
النووي ليس أداة هجوم، بل “سلاح ردع” بامتياز. وغيابه عن بعض الدول جعلها عرضة للابتزاز أو الغزو، كما حدث مع أوكرانيا، التي لو لم تتنازل عن ترسانتها النووية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، لما تجرأت روسيا على غزوها عام 2014 ثم مجددًا في 2022. اتفاقيات الضمان الأمني التي وقّعتها مع الولايات المتحدة (مثل مذكرة بودابست) لم تحمِها، لأنها كانت بلا أوراق قوة حقيقية.
حتى دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية (رغم أنها ضمن الحماية الأمريكية ) بدأت ترتفع فيها أصوات تطالب بامتلاك قدرة نووية مستقلة، لأن الضمانات لا تصمد دائمًا أمام المصالح الكبرى وتغير المواقف الدولية.
نموذج الردع النووي الكلاسيكي تجلّى بوضوح خلال الحرب الباردة، حيث لم تدخل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في أي مواجهة عسكرية مباشرة رغم صراعاتهما العالمية، لأن كِلا الطرفين كان يعلم أن نتيجة أي حرب ستكون “الفناء المتبادل” (Mutually Assured Destruction).
بالتالي، فإن امتلاك إيران (أو غيرها من دول المنطقة) لقدرة نووية، لا يعني تلقائيًا تهديدًا، بل قد يكون مقدمة لميزان ردع يمنع الحروب الكبرى ويحد من الانزلاق نحو الصراعات.
في عالم لا تحكمه الأخلاق بل القوة، من لا يمتلك أوراق ردع، لا يُستشار في خرائط السلام أو الحرب. الردع ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية.