مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: ذاكرتي في إجازة..صمت مؤقّت في عالمٍ لا يعرف الصمت


بعد أن بلغت الأربعين ورقةً من “أوراق من مذكّراتي”، تلك التي أحسبها ستكتمل يومًا إلى مئة ورقة، ثم تقع في مئات الصفحات، لتكون شهادتي على مصر… على ما جرى، وما لم يكن ينبغي أن يجري… شهادة على نصف قرنٍ من عمر وطنٍ، وعُمري، وعمر الذين عاشوا هذا الوطن كما ينبغي أن يُعاش، أو كما دُفعوا ليعيشوه على غير ما يستحقّ.

منذ انتهاء إجازة عيد الفطر، توقفت – دونما قرار – عن مواصلة هذه الكتابة..لا لغياب الرغبة، بل لغياب القدرة. كنت أظن أن الذاكرة لا تأخذ عطلة، وأن الحبر لا يعرف الإجازات…
لكن شيئًا ما بداخلي دخل في هدنةٍ مع الورق وسمّيتُها – لاحقًا – إجازة للذاكرة…
إجازةٌ لم أطلبها، ولم أعرف مدتها، لكنني شعرت أن قلبي – كما ذاكرتي – يحتاج أن يصمت قليلًا، ليسمع نفسه قبل أن يكتب للناس.

هذا الصباح، جلستُ أمام نفسي كما يجلس طبيبٌ أمام مريضٍ لا يشكو، وسألتها: ما الذي أطفأ فيكِ شهوة الحكي؟
ما الذي جعل الذاكرة تقف أمام بوابة الورقة… وتتردّد؟

كان الجواب في قلبي..أجابني لا بصوت، بل بهمسةٍ داخلية، تشبه ارتجاف السطر قبل الكتابة:
لقد أُرهِقت… لا من التذكّر، بل من تكرار ما لا يتغير.
من الحنين إلى ما يشبه الوطن، ومن الخوف من الغد الذي لا يُشبِه أيّ غد.

إننا نكتب حين نشعر أن صوتنا يصنع فرقًا،
ونصمت حين ندرك أن الصوت يغرق، وأن الفرق يُمحى، وأن العالم لا ينصت، بل يحترق.

والحقيقة أنني، ككل من ينظر إلى هذا العالم،
أتابع حريقًا نشب في أركان الكوكب،
نارًا تشتعل في السياسة، وفي الإنسان، وفي المعنى نفسه… لا أحد يعرف متى تنطفئ، ولا أين سينتهي اللهب، ولا كم سندفع – من الحلم، والعمر، والكرامة – ثمناً لهذا الخراب. إننا مغيّبون عن المشهد،
ومع ذلك… نحن في قلبه، غائبون حضورًا، وحاضرون غيابًا. كأننا نعيش في ظلّ أقدار لا نملك حتى حقّ رفضها.

هكذا صمتت الذاكرة…لا لأنها نسيت، بل لأنها خافت أن تتذكّر، لأنها كلما كتبت جملةً… شعرت أنها تكرّر ذات الجرح، بنفس القلم، ونفس السطر، ونفس البلاد!

لكنني أُدرك، رغم كل شيء، أن الكتابة ستعود، كما تعود الطيور إلى أعشاشها بعد الطوفان، وأن الذاكرة، حتى لو دخلت في إجازة، فلن تقوى على الغياب طويلًا..لأن الصدق حين يعجز عن النُطق، يعود – ذات يوم – ليكتب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى