
لم يكن مستغرباً أن يرفض الشارع السوري قرار السلطة الحالية الإفراج عن مجموعة متّهمين بتلطخ أيديهم وثيابهم بدماء الأبرياء من السوريين، الذين خرجوا بثورتهم مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة، فواجهوا آلة الموت والتنكيل. لم يكن غريباً هذا الرفض، كما لم يكن مستغرباً الغضب العارم الذي اجتاح قلوب الأهالي وهم يشاهدون المؤتمر الصحافي الذي عقده عضو لجنة السلم الأهلي، حسن صوفان، محاولاً تبرير ما لا يُبرَّر، وتجميل قرارٍ لم يكن في ظاهره إلا صفعةً جديدةً لضحايا لم يدفن رفاتهم. وكثيرون من أهالي الضحايا، الذين تابعوا المؤتمر بعيون دامعة وقلوب ممزّقة، لا يعرفون حتى اليوم أين وُوريت جثث أبنائهم، وما إذا كانت ستُكشف لهم الحقيقة يوماً. لكنّ المستغرب بحقّ (بل المؤلم) أن تبدو السلطة كأنّها لم تتوقّع هذا الرفض الشعبي، أو أنها لم تُلقِ له بالاً من الأساس. وهنا تبرز المفارقة بين منطقَين متصادمَين: منطق أبناء الثورة الذين ما زالوا يؤمنون أن مبادئها الكُبرى (الحرية والعدالة والكرامة) ليست شعاراتٍ للمساومة، بل حقوقاً دفعوا ثمنها غالياً ولا يمكن التفريط بها، ومنطق تتبنّاه السلطة الحالية، ترى فيه أن تثبيت السيطرة وبسط النفوذ السياسي والأمني يعلوان على بناء الدولة العادلة التي يحلم بها السوريون. أمام هذا التباين الحادّ بين رؤيتَين متضادَّتَين لمستقبل سورية، تبرُز الحاجة الملحّة إلى دراسة جدّية ومتأنية لهذَين المنطقَين المتصادمَين، علّنا نصل إلى مخرج متّزنٍ وعادلٍ من هذه الإشكالية المعقّدة، رغم القناعة بأن التوفيق بينهما يبدو في هذه المرحلة أمراً بالغ الصعوبة، ويحتاج إلى عمل جادٍّ ودؤوب.
منطق الثورة يرى أن العدالة الانتقالية الشرط الأول لتحقيق السلم الأهلي الحقيقي، والسبيل إلى إنصاف الضحايا
حسب المنطق الثوري، لا يمكن القبول بالإفراج عن متّهمين بارتكاب انتهاكاتٍ فظيعةٍ بحقّ مواطنين عزّل، من دون محاكماتٍ عادلةٍ أو إجراءاتٍ قضائيةٍ شفّافة، تحت ذريعة السلم الأهلي أو شعار المصالحة. وعليه، فإن تمرير مثل هذه القرارات خارج مؤسّسة القضاء، لا يُعدّ تجاوزاً لها فقط، بل هو نسف فعلي لمشروع المؤسّسة القضائية الناشئة، التي يفترض أنها ستكون من ركائز الدولة الجديدة. إنها عودة صادمة لمنطق الدولة البوليسية، إذ تختلط السلطات وتجمع، وتُمحى الحدود بين القانون والسلطة السياسية، وتُفتح الأبواب (علناً لا سرّاً) لمرتكبي الجرائم كي يسرحوا ويمرحوا بين الناس، بل إن أحد المتّهمين البارزين، فادي صقر، أصبح نفسه من يقود هذه “المصالحات”، في مشهدٍ يُعيد فتح الجراح، ويُشعر أهالي الضحايا بالمهانة والخذلان، كيف يُطلب من أمٍّ مفجوعةٍ لا تعرف مصير عظام ولدها أن تتقبل هذا “السلم”، أو من أبٍ دفن نصف أسرته تحت الأنقاض، أن يصفّق لعودة الجلّاد؟… يعبّر صوت هؤلاء المكلوم بوضوح عن موقفٍ لا لبس فيه: العفو عن الحقّ العام لا يعني إهدار حقوق الضحايا، والعدالة لا تسقط بالتقادم. يرى منطق الثورة أن العدالة الانتقالية ليست مبدأً أساساً فقط، بل الشرط الأول لتحقيق السلم الأهلي الحقيقي، فهي السبيل الوحيد إلى إنصاف الضحايا وكسر دائرة الإفلات من العقاب. لذا، كيف يمكن قلب المعادلة وجعل السلم الأهلي مقدّماً على العدالة الانتقالية “وله عليها درجة”، كما حاول حسن صوفان أن يبرّر، خصوصاً في ظلّ الشكوك الواسعة التي تحوم حول قدرة هيئة العدالة الانتقالية على أداء مهامها، أو حتى إرادتها الحقيقية في ذلك، ما يثير مخاوف من أن العدالة قد تصبح مجرّد شعار بلا مضمون؟
من الأسباب الجوهرية لهذه الأزمة غموض السلطة في تصرّفاتها، ونقص شفافيتها في الحكم، بالإضافة إلى غياب سردية واضحة ومتماسكة تُقنِع الشعب. زاد هذا الغموض غير البنّاء من شكوك الناس، حتى في تصرّفاتٍ قد تكون صحيحةً في جوهرها، فلم يعد ثمّة من يثق في السلطة بسهولة. يرى الثوار أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم رغبة السلطة الحالية في تبنّي الشفافية، ولا في تقديم رؤية واضحة للشعب، إذ يخدم هذا الغموض مصالحها في ترسيخ نموذج حكمٍ لا يواكب طموحات السوريين في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، بل ربّما يتناقض معها. ثمّ يطرح بعض أبناء الثورة سؤالاً محورياً: لماذا تُركّز السلطة كلّ جهودها في إرضاء الخارج، متجاهلةً الداخل؟… تبرّر السلطة ذلك بأنها ستولي اهتماماً للشعب داخلياً فقط، بعد كسب الشرعية الدولية، ثمّ تثبيت دعائم سلطتها داخلياً، وبعد ذلك قد تبدأ في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. لكنّ هذا الترتيب يثير مخاوف جدّية، فلو كان صحيحاً، فقد يتأخر تحقيق هذه الوعود سنوات طويلة، وربّما يحدث بعد فوات الأوان، حين تفقد السلطة حاضنتها الشعبية، وتزداد الهوّة بينها وبين أبناء الوطن، الذين ينتظرون الحرّية والكرامة في حاضرهم، لا في مستقبل مجهول.
ويرى فريقٌ آخر من أبناء الثورة أن الإفراجات ليست إلا محاولةً من السلطة لتخفيف الضغط الدولي المتصاعد عليها، خصوصاً في ما يتعلّق بالمطالبة بكشف نتائج التحقيق في أحداث الساحل. السلطة، بحسب هذا الرأي، تسعى إلى تأجيل إعلان تلك النتائج، أو تمييع القضية برمّتها، خشية أن تظهر مسؤوليتها المباشرة، حتى لو كانت جزئيةً، في ارتكاب بعض هذه الانتهاكات. جرت مصالحاتٌ كثيرة عبر تسويات مالية على حساب القيم الأخلاقية والثورية، وهذا مرفوض في جوهر أيّ ثورة حقيقية، فالسلطة ترى نفسها في وضع ماليّ صعب حالياً، وتبرّر هذه المصالحات بأنها وسيلة لجمع الأموال الضرورية لإنقاذ الاقتصاد الوطني، مطالبةً الناس بالصبر، وبتحمّل هذه المرحلة الصعبة. لكنّ هذا التبرير لا يقنع غالبية أبناء الشعب، الذين يؤمنون بأن حجم الجرائم التي ارتكبها أصحاب المصالحات أكبر بكثير من أن تُمحى بتسوياتٍ ماليةٍ، وأن دماء أبناء الوطن أغلى من حفنةٍ من الدولارات المغمّسة بالدماء، فالقضية تتعدّى المال، لتصبح مسألةَ عدالةٍ وكرامةٍ لا تقبل المساومة.
تبريرات السلطة لا يقنع غالبية أبناء الشعب السوري، الذين يؤمنون بأن حجم الجرائم التي ارتكبها أصحاب المصالحات أكبر بكثير من أن تُمحى بتسويات مالية
وممّا زاد الطين بِلَّة التبريرات التي قدّمتها السلطة في المؤتمر الصحافي، التي بدت غير منطقية، ما عمّق الاستياء والشعور بالخذلان لدى كثيرين. كان واضحاً في المؤتمر الصحافي شعور حسن صوفان بالتخبّط، إذ بدت حججه ضعيفةً وغيرَ قادرةٍ على إقناع الحضور، وربّما كان هو نفسه غير مقتنعٍ بما يطرحه. كما بدا جليّاً أن المؤتمر لم يُعدّ له جيّداً، وكان بالإمكان للسلطة أن تخفّف من حدّة الانتقادات الثورية عبر مزيدٍ من الصراحة والمكاشفة، خصوصاً في هذه الظروف الصعبة التي تتطلّب شفافيةً ووضوحاً أكبر. كان لافتاً تصريح صوفان بشأن طلبه منح اللجنة صلاحياتٍ للإفراج عمّن لم يثبت تلطّخ أيديهم بالدماء، وهو أمر خارج صلاحياتهم، ولا يملكها إلا القضاء. ويمثّل هذا التداخل تعدّياً على عمل هيئة العدالة الانتقالية التي لم تبدأ مهامها بعد، كما يثير سؤالاً منطقياً لا مفرّ منه: إذا كان هؤلاء فعلاً أبرياء، فلماذا اعتُقلوا من الأساس؟
علاوة على ذلك، كان دفاع صوفان عن منطق السلطة في تقديم ملفّاتٍ بعينها على حساب أخرى غير مُرضٍ، ولا يتناسب مع دوره. إذ كان من الأجدر به أن يركّز جهوده في قضايا السلم الأهلي وسبل تحقيقه، بدل الانجرار إلى تبريراتٍ متشابكة. في المقابل، ترى السلطة قرار الإفراج حقّاً حصرياً لولي الأمر، وطاعته واجبة بلا منازع. لكنّ هذا الموقف يثير إشكالات فقهية وسياسية عديدة، لا يقلّ أهمها عن الجدل القديم “الشورى ملزمة أم معلّمة”، أي حول مدى إلزامية الشورى أو أنها مجرّد مبدأ إرشادي. كما أن التبرير الشرعي للإفراج بالاستناد إلى مبدأ “المؤلّفة قلوبهم” غير مقبول، فليس من المنطق أن تُعطى السلطة السورية منزلةَ النبي (صلّى الله عليه وسلم) المؤيَّد بالوحي، ولا أن يُرفع المفرج عنهم إلى مستوى المؤلّفة قلوبهم، مع العلم أن النبي، ومع قوله “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، ونهيه عن القتل، استثنى أشخاصاً بأسمائهم من مجرمي الحرب، فأمر بقتلهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة.
يرى مؤيّدون للسلطة أن الحكومة السورية، حتى وإن كانت انتقاليةً، لها الحقّ في اعتماد السياسة التي تراها مناسبةً للحفاظ على السلم الأهلي. فهم يؤكّدون أن صانع القرار في الدولة هو الذي يتحمّل مسؤولية اختياراته ونتائجها، وأنه مضطر لاتخاذ قرارات صعبة قد تُغلِّب المصلحة العامة حسب رؤيته الخاصّة. ووفق منطق السلطة، كان ظهور فادي صقر مقنعاً إلى حدّ ما، إذ نفى بشكل قاطع أيَّ علاقة له بمجزرة حي التضامن في دمشق (2013)، موضحاً أنه جرى تعيينه قائداً للمليشيا في الحي بعد وقوع المجزرة، وأنه لم يحصل على عفو من الحكومة السورية، كما أن وزارة الداخلية لا تمتلك أيَّ دليل ضدّه، وهو على استعداد للخضوع لأيّ محاكمة قضائية. وأشار أيضاً إلى أن خلفيّته قد تساعد في إقناع أنصار النظام السابق بالبقاء ضمن إطار الدولة. كما طرح تساؤلاتٍ بشأن إمكانية قبول جمهور الثورة أمثاله شركاءً في الوطن، مؤكّداً أن اسمه بات اختباراً حقيقياً لإمكانية التعايش بين طرفي الصراع في سورية. ويحمل هذا الطرح شيئاً من المنطق لو خُرِج به إلى الناس مبكّراً، وبمصارحة ومكاشفة كاملة بشأن أدواره السابقة، وقبل أن يتولّى مهامه الحالية مع لجنة السلم الأهلي، لكان أكثر إقناعاً لشعبٍ كريمٍ يحبّ المسامحة ويرغب في استئناف حياته التي دمّرها النظام البعثي البائد.
تعتقد السلطة أن شعلة انتصار الثورة لا تزال متوهّجةً، وأن التفويض المعنوي الذي منحه إياها الشعب سيستمرّ بلا نهاية. لكنّها تناست حقيقةً مؤلمةً، هي أن وهج الانتصار وفرحة إسقاط نظام بشّار قد تخفتُ بعد عام أو يزيد قليلاً. حينها، يبدأ الناس في مواجهة واقعهم المرير وظروفهم المعيشية المتردّية، ولن يقبلوا بعد ذلك شعارات من قبيل “إذا حرّرنا المخطوفة، فلا تسألني إلى أين آخذها”. فالناس اليوم بحاجة إلى أكثر من وعود جوفاء، يحتاجون إلى حياة كريمة وعدالة حقيقية تلمسان تفاصيل يومهم. على الجميع أن يستخلصوا دروساً مهمّةً من هذه الحادثة، خصوصاً السلطة، التي ما زالت بحاجة إلى مزيد من التعلّم واكتساب الخبرة في فنون البناء السياسي السليم. فقد ثبت أن تجربة إدلب، رغم بعض نجاحاتٍ رافقتها، لا تكفي لإدارة سورية بأكملها. سورية وطن متنوّع الألوان، وإدارتها مسؤولية أخطر وأكثر تعقيداً ممّا تتصوّر.
جرت مصالحات كثيرة عبر تسويات مالية على حساب القيم الأخلاقية والثورية
مطلوبٌ من السلطة في سورية، وبأسرع وقت ممكن، إجراء محاكماتٍ علنيةٍ لأكابر مجرميها، تُظهر الحقائق بلا مواربة. كما يجب أن تُعقد جلسات مكاشفة ومصارحة، يعترف فيها كلّ متورط بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ثمّ يقدم اعتذاراً شجاعاً، على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا. فالشجاعة الحقيقية تكمن في مواجهة النفس قبل مواجهة الآخرين. لا بد أن يشعر المواطن بالعدل وينال حقوقه كاملةً، فالعدل هو أساس المُلك، وأساس استقرار الدولة. لكن المواطن السوري لا يزال يرزح تحت وطأة القهر، فهو لم ينلْ بعد عدالته المنشودة، ولا حرّيته التي كانت نبراس ثورته. فالحرية والعدالة هما الركيزتان الأساسيتان في مبادئ الثورة. ولعلّ من أهم الدروس التي استخلصناها من تجربتنا في الحكومة المؤقّتة، أن تراكم المشكلات، حتى لو كانت صغيرةً، قد يؤدّي إلى انفجار مفاجئ في لحظة تاريخية غير مناسبة، وتكون نتائجه كارثيةً وغير محسوبة. وما حدث بعد هذه الحادثة جرس إنذار مبكّر يجب على السلطة أن تنتبه له جيّداً، وتتّخذ التدابير اللازمة قبل فوات الأوان.
لم تنتهِ الثورة بعد، بل هي مستمرّة في مسيرتها نحو تحقيق مطالبها الأسمى في الحرية والكرامة والعدالة. أمّا السلطة التي تتجاهل رأي الشعب وتفضّل المصلحة السلطوية على حساب مصلحة الوطن، فهي تغامر بخسارة حاضنتها الشعبية التي لا غنىً عنها، وربّما تجرّ نفسها إلى مخاطر أشدّ وأعمق وأدهى. هي دروسٌ بليغةٌ على السلطة أن تستوعبها جيّداً، وقد قالت العرب قديماً: “الحكيم من اتعظ بغيره، والعاقل من اتعظ بنفسه، وأمّا الأحمق فمن لم يتعظ لا بنفسه ولا بغيره”. ونحن نأمل من النظام الحالي أن يكون عاقلاً، بل أن يرتقي ليصبح حكيماً.