
نجاح خطة الخداع الاستراتيجي مكّنت نتنياهو من أخذ زمام المبادرة، وبالتالي توجيه ضربة استباقية ترتب عليها القضاء على معظم قيادات الصف الأول في الجيش الإيراني، ، لكن نتنياهو لم يكسب الحرب بعد.
لأن النوايا العدوانية للكيان الصهيوني، خصوصاً تجاه إيران، ليست خافية على أحد، كان ينبغي ألا تفاجأ إيران بالضربة القاسية التي وجهها إليها الكيان الصهيوني فجر الجمعة الماضي (13/6/2025)، وأن تتحسب لوقوعها، وأن تكون جاهزة للرد عليها بطريقة أقوى وأفضل، وهو ما لم يحدث.
فحين شنّ الكيان هجومه الكاسح في ذلك اليوم، بدا وقع المفاجأة على إيران واضحاً، وجاء ردّها ضعيفاً ومرتبكاً، ما شكّل صدمة دفعت بالعديد من المتعاطفين مع الموقف الإيراني إلى طرح تساؤلات مشروعة حول حقيقة ما حدث، وعما إذا كانت إيران قد وقعت ضحية خطة خداع استراتيجي شاركت الولايات المتحدة في وضعها، وربما يكون ترامب قد لعب بنفسه دوراً رئيسياً في حبكها.
مؤشرات عديدة تفيد بأن إيران ربما تكون قد رسمت خططها في إدارة الأزمة، انطلاقاً من قناعة مفادها أن نتنياهو لن يجرؤ على اتخاذ قرار منفرد بإعلان الحرب عليها، ومن ثم يحتاج إلى ضمان مشاركة الولايات المتحدة أو، على الأقل، الحصول من ترامب على ضوء أخضر بشنّها.
ولأن سلطنة عمان كانت قد أعلنت رسمياً، وقبل ساعات قليلة من انطلاق الضربة الإسرائيلية الاستباقية، أن الجولة السادسة من المفاوضات الجارية بين إيران والولايات المتحدة ستعقد في مسقط نهار الأحد 15/6، تصورت إيران أن الحرب لن تقع قبل الإعلان رسمياً عن فشل هذه الجولة وتعذر الاتفاق حول موعد لجولة جديدة، ما يعني أن إيران استبعدت من حساباتها احتمال استخدام المفاوضات كأداة في خطة خداع استراتيجي، واستبعدت أكثر احتمال أن يكون ترامب قد قبل المشاركة بنفسه في مثل هذه الخطة، ويبدو هذا هو الخطأ القاتل الذي ارتكبته.
تدرك إيران جيداً أن ترامب هو الرئيس الأميركي الأكثر ارتباطاً بمصالح الكيان الصهيوني، وبالتالي الأكثر استعداداً للتعاون مع حكومته الحالية، الأكثر تطرفاً وعنصرية في تاريخه، ولا شك أنها تتذكر أنه الرئيس الذي تمكن نتنياهو من إقناعه بالانسحاب من اتفاق دولي وقّعت عليه وضمنته الدولة الأميركية.
لذا، يمكن القول إن التفسير الوحيد للأسباب التي أدت إلى تجاهل إيران هذه الحقائق هو احتمال وقوعها تحت تأثير تحليلات سياسية تستند إلى فرضية مفادها أن تبني ترامب سياسة خارجية تتمحور حول شعار “أميركا أولاً” سوف يضعه إن آجلاً أو عاجلاً في تناقض مع نهج نتنياهو الذي يميل إلى ترجيح كفة مصالحه الشخصية على كفة المصلحة العامة في الكثير من قراراته، وهذا خطأ قاتل لأن خطط الحرب والسلام ومصائر الشعوب لا تبنى على تحليلات أو افتراضات من هذا النوع.
ربما يكون من المفيد هنا أن نتذكر أن نتنياهو تربطه بترامب علاقة شخصية قوية جداً، وراهن منذ البداية على فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية، بل وأعلن دعمه الصريح له إبان حملته الانتخابية.
وربما يكون من المفيد أن نتذكر أيضاً أن نتنياهو كسب رهانه هذا في وقت كان قد تمكن من تحقيق إنجازات ميدانية لافتة رفعت من أسهمه لدى ترامب. من هذه الإنجازات: إخراج حزب الله من ساحة المواجهة العسكرية، وإسكات الجبهة العراقية وإخراجها بدورها من هذه الساحة، المساهمة الفعالة في إسقاط النظام السوري الداعم للمقاومة والمرتبط بعلاقات وثيقة مع إيران.
ومن هنا اعتقاد نتنياهو أن الطريق بات مفتوحاً أمامه للهيمنة على المنطقة، ولم تبق سوى عقبة واحدة تجب إزاحتها ليصبح طريقه سالكاً تماماً: إيران. صحيح أنه كان على قناعة تامة من أن إيران أصبحت أضعف كثيراً من ذي قبل، بعد أن تمكن من “قطع أذرعها” في المنطقة، لكنه كان يدرك أيضاً أن حلمه الكبير في الهيمنة المنفردة على المنطقة لن يتحقق إلا بقطع “رأس الأفعى”، وهو هدف أكبر من قدراته ويحتاج إلى دعم مباشر من صديقه ترامب. لذا، يمكن القول إن نتنياهو بدأ سعيه الحثيث لتوريط ترامب في المشاركة معه في الحرب التي يخطط لشنّها على إيران، وذلك منذ اللحظة الأولى لدخول ترامب البيت الأبيض.
لم تكن المهمة صعبة بالنسبة إلى نتنياهو، خصوصاً في ظل الاتفاق التام بين الرجلين حول الأهداف التي يسعيان لتحقيقها في مواجهة إيران، رغم ظهور اختلافات بين الحين والآخر حول الوسائل الكفيلة بتحقيقها. فبينما يميل ترامب، بحكم عقليته التجارية، نحو تفضيل الوسائل السلمية، بالتوازي مع فرض أقصى العقوبات والتهديد الدائم باللجوء إلى القوة، يميل نتنياهو، المتعطش للدماء، إلى تفضيل استخدام السلاح.
لذا، فإن المعضلة الرئيسية التي تعين عليه مواجهتها والتغلب عليها انحصرت في كيفية العثور على صيغة تحقق التوازن بين الأهداف المتفق عليها والوسائل المستخدمة في تحقيقها، من ناحية، والتوزيع العادل للأدوار بين الطرفين، من ناحية أخرى.
وفي تقديري أن تتبع المسار الذي سلكته العلاقات الأميركية- الإسرائيلية يوحي بأن ترامب ونتنياهو تمكنا معاً من العثور على الصيغة المناسبة لحل هذه المعضلة، وهي صيغة تكشفت معالمها الرئيسية تباعاً منذ بداية الهجوم الإسرائيلي على إيران يوم الجمعة الماضي.
ففي ما يتعلق بتحقيق التوازن بين الأهداف المعلنة والوسائل المستخدمة لتحقيقها، تم الاتفاق على صيغة مفادها وجود أهداف مشتركة بين البلدين، تشمل:
دلالات الجولة الأولى من المفاوضات الإيرانية- الأميركية وآفاقها 17 نيسان 09:28
- 1- منع إيران من امتلاك سلاح نووي، حتى لو تطلب الأمر حرمانها من حق تخصيب اليورانيوم على أراضيها.
- 2- تخفيض ترسانة إيران من الصواريخ والمسيرات إلى المستوى الذي لا يشكل تهديداً للكيان.
- 3- إلزام إيران بالامتناع عن تمويل الفصائل المسلحة التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي لأراضيها وعن مدّها بالأسلحة.
ولا شك أن تحقيق هذه الأهداف بالكامل سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف النظام الإيراني إلى الدرجة التي تجعله آيلاً للسقوط. ومع ذلك، فلن يكون هناك ضرر إذا أصرّ كل طرف على إعلان أهداف تبدو في ظاهرها متباينة، لأن التباين في هذه الحالة يخدم مصالح كلا الطرفين بطريقة أفضل، لكنها في حقيقتها ليست كذلك.
كما تم الاتفاق في الوقت نفسه على أن دخول إدارة ترامب في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إيران يجب أن لا ينظر إليه من جانب الطرف الآخر وكأنه ينطوي بالضرورة على تقديم تنازلات، لأنه قد يكون أداة ضرورية لإدارة الأزمة بطريقة أكثر فاعلية، خصوصاً من جانب الولايات المتحدة.
وفي ما يتعلق بلعبة توزيع الأدوار التي يجب على كل من الكيان والإدارة الأميركية القيام بها، تم الاتفاق على صيغة تشمل العناصر التالية:
1- منح الكيان حق المبادرة باستخدام القوة العسكرية ضد إيران، ولكن في حالة واحدة فقط، ألا وهي وصول كلا الطرفين إلى قناعة مفادها أن النظام الإيراني لن يرضخ للضغوط الاقتصادية أو للتهديد باستخدام القوة، وأن المفاوضات معه وصلت إلى طريق مسدود وأصبح من المتعذر تحقيق كامل الأهداف المتفق عليها بالوسائل السلمية.
2- التزام إدارة ترامب بمدّ الكيان بكل الوسائل والأدوات العسكرية التي تساعده على تحقيق الأهداف المتفق عليها، خصوصاً ما يتعلق منها بالذخيرة، وفي الحدود التي تسمح بها نظم التسليح المعتمدة سلفاً.
3- التزام إدارة ترامب بعدم ترك الكيان يحارب وحيداً في الميدان، خصوصاً إذا امتدت الحرب لفترة أطول مما يمكن للكيان احتماله، والتدخل لإنقاذه في حال تعرضه لمخاطر لا يستطيع مواجهتها منفرداً، أو لاستكمال ما عجز عن تحقيقه من الأهداف المتفق عليها سلفاً.
ورغم أن الصيغة السالفة الذكر هي صيغة افتراضية، مشتقة من تتبع سياق ومسار الأحداث، إلا أن مؤشرات عديدة تدل على أنها ليست بعيدة عما جرى ويجري فعلاً على أرض الواقع. فخلال زيارة نتنياهو الثانية للولايات المتحدة بعد تنصيب ترامب، والتي وصفت في حينها بأنها أخذت شكل “الاستدعاء”، أعلن ترامب عن قراره بالدخول في مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي.
ولأن نتنياهو بدت عليه الدهشة أمام الحضور، وكأنه فوجئ بالأمر، فقد فسر هذا الإعلان على أنه ينهض دليلاً على أن ترامب لم يعد يلزم نفسه بالتشاور المسبق مع نتنياهو، حتى في أكثر القضايا حساسية بالنسبة إلى الأخير، وهو تفسير يتبين الآن أنه لم يكن صحيحاً، بدليل تطوع نتنياهو بالحديث عن “النموذج الليبي” باعتباره الأولى بالاتباع في الحالة الإيرانية. ولأن ترامب لم يعلق فليس هناك اليوم من تفسير آخر سوى أن الأمر كان متفقاً عليه بالفعل بين الطرفين.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن ترامب أعلن بنفسه، وعقب إقدام نتنياهو مباشرة على شن الحرب على إيران يوم الجمعة الماضي، أنه علم مسبقاً بالقرار الإسرائيلي، رغم صدور تصريحات أميركية رسمية تؤكد عزم الولايات على المشاركة في الجولة السادسة من المفاوضات المزمع عقدها في مسقط، لتبيّن لنا بوضوح تام أن المفاوضات مع إيران لم تكن جادة وأنها استخدمت كغطاء في خطة خداع استراتيجي شارك فيها ترامب بنفسه.
نجاح خطة الخداع الاستراتيجي مكّنت نتنياهو من أخذ زمام المبادرة، وبالتالي توجيه ضربة استباقية موجعة ترتب عليها القضاء على معظم قيادات الصف الأول في الجيش وفي حرس الثورة الإيراني على السواء، لكن نتنياهو لم يكسب الحرب بعد.
وقد أصبح واضحاً تماماً الآن، وبعد أيام عدة فقط من انطلاقها، أنه لن يستطيع تركيع إيران ودفعها إلى الاستسلام، وبدأ يستغيث طلباً للنجدة الأميركية، المتفق عليها صراحة أو ضمناً، فهل سيستجيب ترامب؟ ربما يكون من السابق لأوانه الإجابة عن هذا السؤال، لكن استجابته ستكون لها تأثيرات خطيرة، ليس على التوازنات الإقليمية وحدها ولكن على مجمل النظام الدولي ككل. وأياً كان الأمر، أعتقد أن لدى إيران من الإمكانيات والقدرات والأوراق ما يؤهلها لكتابة الكلمة الأخيرة في هذه الحرب التي فرضت عليها، والتي لم يعد أمامها سوى أن تخوضها حتى النهاية.