مقالات وآراء

 د. عدنان منصور يكتب : الحرب لن تجعل إيران تتخلّى عن حقوقها المشروعة!

ما يجري اليوم من حرب مدمّرة بين كيان الاحتلال «الإسرائيلي» وإيران، ليس إلا نتيجة للسياسة المستبدّة الحمقاء التي حرّض عليها الرئيس الأميركي ترامب، وانتهجها مجرم الحرب في تل أبيب. إنّ توقيع إيران على الاتفاق النوويّ عام 2015 مع المجموعة 5+1، وتطبيقها له نصاً وروحاً، وذلك بإقرار مفتشي الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، ترك ارتياحاً كبيراً لدى المجتمع الدوليّ.

لكن تمّ تعطيله بانسحاب الرئيس الأميركيّ ترامب منه عام 2018، بذريعة أنّ البرنامج النووي الإيراني سيتيح الفرصة لإيران على تصنيع سلاح نووي، وأنّها تعمل على تحقيقه! ترامب لم يكن صادقاً في زعمه، ولم تكن لديه الأدلة الدامغة في هذا الشأن، ولو كان ادّعاؤه صحيحاً، للجأت الدول الأوروبيّة الثلاث الموقعة على الاتفاق، بريطانيا، وفرنسا وألمانيا إلى الانسحاب منه.

لكن الدول الثلاث كانت تعرف في قرارة نفسها أنّ ترامب لا يقول الحقيقة، بل يضلّلها ويضلّل العالم معها. عندما أعاد ترامب فرض العقوبات على إيران، أجبر دول العالم بما فيها أوروبا على التقيّد والالتزام بها تحت التهديد بفرض العقوبات عليها. بريطانيا وفرنسا وألمانيا المحرجة بقرار ترامب، أرادت إيجاد صيغة جديدة للتعامل مع إيران في إطار الاتفاق النووي، لا تتأثر بالعقوبات الأميركية.

إلا أنها عجزت عن ذلك أمام ضغوط واشنطن. مع بداية ولايته الثانية، وضع ترامب مع حليفه نتنياهو إيران، كهدف لا بدّ من التخلص من نظامها، إذ لم يتوقف منذ مجيئه إلى السلطة، عن أسلوب التحذير، والترغيب، والتهديد، والوعيد، والاتهام والابتزاز والتلويح بأوقات عصيبة بانتظار طهران، وبإجراءات عسكريّة رادعة ضدّها وضدّ قادتها، إذا ما رفضت الجلوس مجدّداً إلى طاولة مفاوضات «ترامبيّة»، تفرض فيها واشنطن شروطها التعجيزيّة على طهران، وتجرّدها بالكامل من برنامجها النووي السلمي والصاروخي.

الهدف الاستراتيجي للثنائي ترامب ونتنياهو ليس الملف النووي الإيراني والصاروخي فقط، وإنما الأهمّ هو الإطاحة بالنظام الإسلاميّ الذي تعمل عليه واشنطن وتل أبيب منذ 46 عاماً. لو كان في نية ترامب أن يجنّب المنطقة الحرب الدائرة اليوم لفعل ذلك، وسمح لإيران أن يكون لها برنامج نووي سلمي وفقاً لقواعد ودستور الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

لكن ترامب أراد أن يُجهض الاتفاق مع إيران ويجرّدها من أبسط حقوقها النووية، والعسكرية الدفاعية، وهذا يعني، القضاء على قدرات إيران العلمية، والعسكرية، والأمنية، والمعرفية، لتعود مجدّداً إلى ما كانت عليه في زمن الشاه، ملعباً أمنياً وسياسياً، وعسكرياً، واستراتيجياً خصباً، في خدمة واشنطن وتل أبيب ومصالحهما الاستراتيجية في الشرق الأوسط.

أراد نتنياهو وترامب شنّ الحرب على إيران، فكان العدوان الإسرائيليّ عليها بدعم ومباركة ترامب الذي لم يُخفِ ذلك، عندما قال بعد الضربة العسكرية «الإسرائيلية» الأولى على إيران: «كان هجوماً ممتازاً أكثر مما توقعناه». ترامب الذي هو على شاكلة العديد من رؤساء الولايات المتحدة الذين أشعلوا الحروب، والأزمات، والفوضى في دول في العالم، لا يريد حلاً عادلاً للقضايا الرئيسة التي ترتبط بدول الشرق الأوسط ولا بغيره.

ترامب بسياساته العدوانية المتهوّرة والخبيثة، يجسّد جيداً مضمون ما قاله يوماً وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر: «ليس من صالح الولايات المتحدة أن تحلّ أيّ مشكلة في العالم، لكن من صالحها أن تُمسك بخيوط المشكلة، وتحرك هذه الخيوط حسب المصلحة القومية الأميركية». الحرب التي أشعلها نتنياهو بالتنسيق مع ترامب، وشنّها على إيران، تضع الشرق الأوسط، والعالم أمام مازق خطير، تترتب عنه مخاطر كبيرة، وتداعيات رهيبة، نظراً لتأثير الحرب على مصالح دول الشرق الأوسط السياسية، والأمنية، والاقتصادية، والعسكرية، والاستراتيجية.

ماذا لو تدخلت واشنطن، وزجّت نفسها مباشرة في الحرب مع «إسرائيل» ضدّ إيران، وغيّرت المعادلة العسكرية الإيرانية ـ «الإسرائيلية»؟! ماذا عن الصين، وروسيا، وتركيا وباكستان، ومصر، والعراق، والسعودية وغيرها، فيما لو تحكّمت الولايات المتحدة واستفردت بالشرق الأوسط؟!

ألا تشكل إيران اليوم الجدار في وجه النفوذ والتوسّع الأميركي باتجاه الشرق، للوصول إلى بحر قزوين ودول آسيا الوسطى؟! ألا تشكل إيران ضمانة وممراً من ممرات المشروع الصينيّ الضخم «الحزام والطريق»، الذي سيمرّ في أرضها شريان تجاريّ بريّ صينيّ إلى أوروبا؟!

هل تقبل الصين أن تحتوي الولايات المتحدة إيران، وهناك خط الهند ـ دبي ـ حيفا التجاريّ الذي أنشئ ليكون المنافس لمشروع «الحزام والطريق»، ويحدّ من مصالح ونفوذ الصين التجارية؟!

هل في صالح باكستان تغيير خريطة الشرق الأوسط على يد الثنائي الأميركي «الإسرائيلي» الذي يعمل على التوسّع شرقاً، ليصل الى الحدود الغربية لباكستان، لتحاصر من الشرق والغرب، في الوقت الذي تشهد فيه إسلام آباد حالة عداء مزمنة، وتوتر دائم مع الهند منذ تأسيس باكستان عام 1947 وحتى اليوم؟!

هل تقبل باكستان وصول المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي إلى حدودها، والذي يعمل على تقسيم دول الشرق الأوسط، فيما باكستان وإيران تعاني من حركات إرهابيّة انفصاليّة في بلوشستان وسيستان مدعومة من واشنطن وتل أبيب؟! هل تقبل تركيا بالتمدّد «إلإسرائيلي» في المنطقة، فيما «إسرائيل» لا تستسيغ في العمق دولة تركية قوية موحّدة، ولن تتردّد يوماً عندما تحين الفرصة المناسبة للعمل على تقسيمها، وهي التي تدعم جهارة الحركات الانفصاليّة الكردية في سورية، والعراق وإيران؟!

ما الذي يمنع تل أبيب مستقبلاً من دعم انفصال الكرد عن تركيا إذا وجدت الأمر يصبّ في صالحها، مثل ما فعلت مع كرد العراق وسورية؟! هل في صالح روسيا ترك إيران فريسة للأميركي، ليطيح في ما بعد بالمعاهدة الاستراتيجية بين البلدين، ويتيح له غسل قدميه في جنوب بحر قزوين، فيما روسيا على الشاطئ الشمالي منه؟! إنّ الحرب الإسرائيلية على إيران تضع دول الشرق الأوسط كلها أمام تحدّ كبير، ومتغيّرات سياسية، واقتصادية، وأمنية خطيرة، في حال انخرطت واشنطن وحلفاؤها في الحرب الدائرة رحاها، وبقيَت دول عربيّة مسمّرة، تتفرّج على المشهد دون مبالاة، وهي لا تدري أنّها على لائحة التقسيم، وبتخاذلها، وخنوعها، وخضوعها، ستجد نفسها مجدّداً على يد الأميركي ـ الإسرائيلي في عصر المحميّات والمشيخات بكلّ ذله وانحطاطه!

لا يمكن لروسيا والصين الاكتفاء نظرياً بالتنديد بأيّ عدوان أميركي غربي إذا حصل على إيران، لأنه سيهدّد في الصميم مصالحهما الاقتصادية، والأمنية، والاستراتيجية، وهذا يحتّم عليهما العمل على إجهاض أيّ عدوان أميركي قبل حصوله. ترامب من داعية «سلام» لإنهاء الحروب في العالم، إلى مؤجّج للحروب وإشعالها عملياً، فهل يقبل أن تقتصر الحرب العدوانية ضدّ إيران على «إسرائيل»، أم أنه سينضمّ إليها، ويشعل المنطقة برمتها؟!

لقد ظنّ ترامب ونتنياهو أنه باستطاعة الكيان أن يحسم الحرب من الضربة الأولى، وإذ بمجرم الحرب يغرق في مستنقع إيران، ويغرق معه الكيان المؤقت كله، ليسرع إلى طلب النجدة من الولايات المتحدة التي أدمن معظم رؤسائها على مدى قرون على دعم الطغاة ومجرمي الحروب! هل يفي ترامب بوعده العمل على إنهاء الحروب في العالم، ويوقف الحرب على إيران، أم أنه سينضمّ الى قافلة المتعطشين للدماء ومفجّري الحروب وتجارها؟!

عام 2003، غزا بوش العراق بذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ليتبيّن في ما بعد أنه كاذب، وكذب على العالم كله! في مؤتمر الأمن الدولي الذي عقد في شهر حزيران/ يونيو 2003 في سنغافورة، أيّ بعد أشهر قليلة من الغزو الأميركي للعراق، سئل بول وولفوويتز مساعد وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد، عن سبب ضرب العراق الذي لم يملك أسلحة دمار شامل، فيما لم تفعل واشنطن شيئاً حيال كوريا الشمالية التي تملك أسلحة الدمار!

كان جواب وولفوويتز بكلّ وقاحة: «الفرق الأكبر بين العراق وكوريا الشمالية، هو أنّ العراق يعوم على بحر من النفط!». هكذا يفكر طغاة العالم حيال الدول المغلوبة على أمرها، فهل يتخلّى ترامب عن إنقاذ نتنياهو، ويترك إيران تدافع عن أمنها القومي، وحقوقها، وسيادتها، وأرضها، وقرارها الحرّ المستقلّ، وتدافع أيضاً عن مستقبل المنطقة كلها التي ستجعلها واشنطن وتل أبيب الكبش على مذبح التقسيم؟!

إنّها ساعة الحقيقة والحسم، إما سقوط دول الشرق الأوسط في الحضن الأميركيّ، وإما اقتلاع جذور واشنطن وتل أبيب ونفوذهما منه، ولا بدّ من اقتلاع الطغاة وإن طالت المواجهة المسلّحة. مشكلة ترامب، والغرب و»إسرائيل» أنهم لم يفهموا بعد معدن الإيرانيين، ولا يريدون أن يُقرّوا بصلابتهم، وتمسكهم بأرضهم، ودولتهم وحقوقهم وكرامتهم، وإصرارهم على خلع رقاب المعتدين، وإنْ كلفهم هذا المزيد المزيد من التضحيات…

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى