
نحن نعيش في لحظة عربية صادمة، لحظة انفصال عن المعنى، عن الكرامة، عن الوعي، لم نعد نملك ترف الانتظار، ولم نعد نستطيع أن نتكئ على الأعذار المكرورة “ما باليد حيلة”، “الواقع أكبر منا”، “دع السياسة لأهلها”.
هذه العبارات لم تعد مفرّاً بل صارت سكيناً يُغرس في خاصرة ما تبقى من شرفنا الجمعي، نحن لا نعيش هزيمة واحدة، بل هزائم متراكبة ومتراكمة، سياسية وأخلاقية وثقافية، تمتد من حدود الخراب في عواصمنا، حتى الصمت الرهيب في قلوبنا.
أنا لا أكتب لأنني محلل سياسي، ولا لأنني أمتلك أوراق استخباراتية سرية، بل أكتب لأنني إنسان عربي، يرى بعينيه كيف يُذبح وطنه من الوريد إلى الوريد، ويُطلب منه أن يصفّق!
يطلبون منا أن نغض الطرف، أن نعيش “حيادًا”، أن نُعلّق ضمائرنا على مشجب الواقعية المزعومة، لكن من قال إن الحياد في زمن الذبح فضيلة؟ من قال إن الصمت موقف؟ الصمت اليوم خيانة، لا أقل من ذلك.
انظروا حولكم، فلسطين تُمحى، لا تُحاصر فقط، بل تُمحى من الخريطة، من الذاكرة، من الوجدان العربي الذي كان يومًا حيًّا .. العراق تاه بين أطماع الداخل والخارج .. سوريا تحوّلت إلى لوحة حرب أبدية.
ليبيا صارت ميدانًا مفتوحًا للمرتزقة .. السودان ينزف بلا توقف. اليمن لا يُذكر حتى في نشرات الأخبار .. هل هذه دول فاشلة؟ لا .. هذه ضحايا أنظمة فاشلة، ومجتمعات اختارت أن تصمت حين كان الكلام واجبًا، وأن تهمس حين كان الصراخ ضرورة وجودية.
لا تقولوا لي إن الشعوب لا تملك شيئًا، الشعوب تملك الوعي، والوعي قوة، الشعوب تملك القدرة على الضغط، والضغط طريق للتغيير.
أما أن نغلق أفواهنا ونغلق أعيننا ثم نشتكي من الطغيان؟ هذه ليست شكاية، هذه شراكة .. نعم، من يصمت اليوم، هو شريك في ما يحدث .. شريك في تسليم القرار للجهل، في إعطاء الشرعية للصوص، في دفن المبادئ تحت ركام المصالح الضيقة.
نحن أمة اخترعت الحرف، وحرّفت الحقيقة .. أمة أنجبت الفلاسفة، لكنها الآن عاجزة عن إنتاج رأي مستقل .. أمة كانت تتحدث باسم العالم، والآن لا تسمع صوتها إلا حين يُطلب منها التصفيق أو الاعتذار.
متى تحوّلنا من صانعي التاريخ إلى هامشيين في مشهد عبثي؟ متى خسرنا جرأة السؤال؟ متى صار الصدق خطراً، والوطنية تُهمة؟
ليست مشكلتنا أن الأنظمة فاسدة .. هذا أمر صار معلومًا بالضرورة .. لكن المصيبة الحقيقية أننا أصبحنا نقبل الفساد، نتعايش معه، نطوّعه ونطبع معه ونجعله جزءًا من حياتنا اليومية.
نتذمر قليلًا ثم نعود لنصفّق للقاتل، فقط لأنه يوزع خبزًا، أو يُطبع وجوهه على لوحات الطرق .. هل وصلنا إلى هذا الحد من الانحدار؟ نعم. والاعتراف بالحقيقة هو بداية الانفجار.
أكتب هذا لأنني لا أستطيع أن أتحمّل أكثر، لأنني لا أريد أن أنظر إلى نفسي في المرآة بعد سنوات، وأسأل لماذا سكتّ؟ لماذا لم أقل شيئًا حين كانت الكلمة موقفًا، وكان الموقف حياة؟
لأنني أريد أن أكون في صفّ الصدق، حتى لو خسرته، في وجه الزيف، حتى لو انتصر. لأنني أؤمن أن الكلمات، حين تكون حقيقية، تملك من القدرة ما لا تملكه الجيوش.
أنا لا أدعو للثورة، بل أدعو للوعي، لا أطلب الخروج إلى الشوارع، بل إلى الذات، أطلب إعادة تعريف الانتماء، أن نعيد السؤال: من نحن؟ ولماذا؟ وأن نقرر، بجرأة، أن لا نكون شهود زور في جنازة الوطن، أن لا نعيش داخل أسوار الصمت بينما العالم ينهشنا قطعة قطعة.
كفانا نفاقًا .. كفانا تواطؤًا مع الواقع .. كفانا اختباء خلف الشعارات الباهتة .. حان وقت أن نعترف: نحن في لحظة الانهيار الكامل، وكل لحظة إضافية من الصمت هي ترسيخ لهذا الانهيار.
الوطن لا يُبنى بالمديح، بل بالنقد. لا ينهض بالتصفيق، بل بالرفض .. لا يُستعاد إلا حين نرفض أن نكون مجرد متفرجين على موته.
لقد تواطأنا كثيرًا .. لكن لا يزال هناك وقت للنجاة .. والنجاة لن تأتي من الخارج، بل من الداخل .. من قرار بسيط، فردي، أن نقول “لا”، حين يُطلب منا أن نوافق .. أن نصرخ، حين يُطلب منا أن نصمت .. أن نكتب، حين يُراد لنا أن نُمحى.
لهذا أكتب .. ولأني أكتب، فأنا لا أخون.