ملفات وتقارير

هل يمكن لإسرائيل أن تكون دولة مهيمنة؟

كتب: هشام جعفر

عادةً ما تُعرَف القوة المهيمنة بأنها “القوة العظمى الوحيدة في منطقة معينة”، حيث “لا يمكن لأي دولة أخرى (أو مجموعة من الدول) أن تشنَّ دفاعًا جديًا في اختبار شامل للقوة العسكرية”. ويُستشهَد بالهيمنة التاريخية للولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي منذ أوائل القرن العشرين كمثال على الهيمنة الإقليمية الحقيقية، التي حققت حالة من “الأمن الحر”، حيث لم تواجه أي تحديات عسكرية كبيرة من داخل منطقتها.

القوة الإقليمية المهيمنة، إذن، تمتلك قوةً هائلةً لا تواجه أي تهديدات أمنية كبيرة من جيرانها، ولا تستشعر القلق من ظهور منافسين، وهذا يسمح لها بتركيز سياساتها الخارجية والدفاعية في مجالات أخرى.

تتطلب الهيمنة الإقليمية الدائمة من الدول المجاورة قبول (وأحيانًا الترحيب بـ) مكانة القوة المهيمنة. تاريخيًا، فشلت القوى المهيمنة المؤقتة، مثل فرنسا النابليونية وألمانيا النازية، لأنها لم تتمكن من ترسيخ مكاسبها، وواجهت في النهاية تحالفاتٍ معارضةً أقوى.

لكن، هل ينطبق هذا التعريف على إسرائيل بعدما أظهرت تفوقًا عسكريًا واستخباراتيًا في جبهاتها المتعددة منذ السابع من أكتوبر 2023؟

أجاب على هذا السؤال اثنان من أهم كتّاب الأعمدة في مجلة فورين بوليسي، يومي 16 و18 الجاري، في مقالتين تطرقتا إلى سعي إسرائيل للهيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط، وخاصة في سياق صراعها مع إيران.

يرى مايكل هيرش أن إسرائيل قد نجحت في ترسيخ تفوقها العسكري على جيرانها وإيران، لكنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على الدعم الأمريكي، وخاصة في ظل إدارة ترمب، لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي أو متابعة أهداف أخرى مثل تغيير النظام في طهران.

ومع ذلك، يتحدّى ستيفن م. والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، فكرة إسرائيل كقوة مهيمنة إقليميًا، مؤكدًا أنه، على الرغم من قوتها العسكرية ودعم الولايات المتحدة، فإن صغر حجمها والصراعات المستمرة مع جهات فاعلة من غير الدول، مثل حماس، والقدرات العسكرية الكبيرة للقوى الإقليمية الأكبر مثل إيران وتركيا (وأضيف من عندي: مصر)، تمنعها من تحقيق هيمنة حقيقية لا جدال فيها أو أمن طويل الأمد من دون تسويات سياسية.

لكن، ما هي العوامل الداخلية والخارجية الرئيسية التي تشكّل تحديًا لطموحات إسرائيل في الهيمنة على المدى الطويل؟

تواجه تطلّعات إسرائيل طويلة الأمد للهيمنة الإقليمية تحدياتٍ كبيرة ناتجةً من الحقائق الجيوسياسية الخارجية والعوامل الداخلية، كما أبرزتها المقالتان.

أولًا: العوامل الخارجية:

1- الاعتماد الحاسم والمستمر على الولايات المتحدة: إن قدرة إسرائيل على تأكيد التفوق العسكري والحفاظ عليه “تعتمد بشكل حاسم على تحالفها مع الولايات المتحدة”.

تُقدِّم الولايات المتحدة دعمًا واسع النطاق وغير مشروط إلى حدٍّ كبير، بما في ذلك معظم الطائرات والقنابل والصواريخ التي تحتاجها إسرائيل لعملياتها العسكرية، فضلًا عن الحماية الدبلوماسية المستمرة.

من دون مساعدة الولايات المتحدة، فإن “احتمالات سيطرة إسرائيل على المنطقة ستكون ضئيلة”. على سبيل المثال، يُعتَقد أن قنبلة “خارقة للتحصينات” GBU-57A/B أمريكية الصنع فقط، والتي تُطلِقها قاذفة أمريكية من طراز B-2، قادرة على تدمير موقع فوردو النووي المدفون في أعماق الأرض في إيران.

على عكس القوة المهيمنة الإقليمية الحقيقية، فإن إسرائيل تحتاج إلى الاعتماد على الآخرين للسيطرة على جوارها، مما يشير إلى أن اعتمادها الحالي يشكّل قيدًا.

إن العلاقات مع الولايات المتحدة نفسها تُظهِر علامات توتر، وقد تصبح أكثر صعوبة في الحفاظ عليها مع تراجع مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية.

إن العلاقة الخاصة تأتي بثمن باهظ بالنسبة للأمريكيين، وخاصةً إذا أدّى الصراع الحالي إلى تورط الولايات المتحدة بشكل أكبر في الصراعات الدائرة في المنطقة.

2- وجود قوى إقليمية أخرى مهمة: على الرغم من القوة العسكرية لإسرائيل، فإنها لا تستطيع تجاهل دول أكبر مثل تركيا وإيران ومصر. الدول الثلاث تمتلك قواتٍ عسكريةً ضخمة، وعددًا سكانيًا أكبر بكثير، ويمكنها بناء دفاع قوي في حرب شاملة. وهذا يعني أن إسرائيل لا تستطيع شطبهم أو افتراض أنهم سيستسلمون لهيمنتها.

3- المقاومة المستمرة والتهديدات المتطورة من الخصوم: حتى بعد إضعاف جماعات مثل حزب الله وحماس، فإن قدرة المنطقة على إنتاج مقاومة جديدة لن تنتهي أبدًا، وستظل تُشكّل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل.

وعلى الرغم من التوحش في غزة وإلحاق دمار هائل بسكانها وبنيتها التحتية، فإن القوات الإسرائيلية متورطة هناك، كما يظل الحوثيون يمثلون تهديدًا، ويحتفظ حزب الله بقوة عسكرية يمكن، بتجديدها، معاودة الاشتباك مع إسرائيل.

4- تصميم إيران وطموحاتها النووية: المبرر الأساسي للهجمات الإسرائيلية الأخيرة على إيران هو ادعاء الخوف من حصول إيران على أسلحة نووية، وهو ما من شأنه أن يُحدّ من قدرة إسرائيل على استخدام القوة في المنطقة دون عقاب.

إيران دولة أكثر تطورًا وثراءً من العراق أو سوريا، ومن غير المرجّح أن تستسلم ببساطة. وحتى لو انهار النظام الإيراني الحالي، فقد تكون الحكومة التي ستخلفه مصممة بنفس القدر أو أكثر على السعي إلى امتلاك القدرة النووية.

إن رد إيران على الهجمات الأخيرة، وإن كان أقل من الضرر الذي لحق بها، لم يكن مؤثرًا أو تافهًا.

لا يزال الصراع مستمرًا، ولا يُظهر أي مؤشر على أن طهران ستخضع مصالحها طواعيةً لإسرائيل.

5- عدم القبول من الجيران: من أجل هيمنة إقليمية دائمة، يجب على الدول المجاورة قبول (وفي بعض الحالات الترحيب بـ) وضع القوة المهيمنة، وإلا فإن القوة المهيمنة ستكون قلقة باستمرار من تجدد المعارضة، وستُجبَر على اتخاذ “خطوات متكررة لمنع ظهورها”.

تشير المقالتان إلى أن “معاملة الجيران بتسامح لم تكن من نقاط قوة إسرائيل”.

تدل استطلاعات الرأي العام للجمهور العربي على أنه كلما زاد العدوان الإسرائيلي وتمددت هيمنتها، كلما تصاعد الرفض الشعبي للتطبيع، وكلما فرض ذلك على صانع القرار العربي حدودًا على علاقته بالكيان الصهيوني.

6- تضرر الصورة العالمية وتآكل الدعم الدولي: إن تصرفات إسرائيل، مثل قتل “أكثر من 55 ألف فلسطيني” والإبادة الجماعية المستمرة، قد ألحقت ضررًا بالغًا بصورة إسرائيل العالمية، وتسببت في تآكل الدعم حتى بين حلفائها القدامى. وهذا يجعل من الصعب على إسرائيل تعزيز موقفها من خلال الدبلوماسية أو القبول الإقليمي الأوسع.

ثانيًا: العوامل الداخلية التي تتحدى طموحات إسرائيل للهيمنة

1- القضية الفلسطينية التي لم تُحل: إن الانتصارات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة لم تُحْل القضية الأكثر جوهرية، وهي القضية الفلسطينية. يشكّل الفلسطينيون ما يقرب من نصف السكان في الأراضي المحتلة والخاضعة للسيطرة الإسرائيلية.

يؤكد والتر أن “أمن دولة إسرائيل على المدى الطويل يعتمد في نهاية المطاف على تحقيق تسوية سياسية دائمة مع جيرانها، بما في ذلك الفلسطينيين”، وليس الاعتماد فقط على القوة.

2- تأثير المتطرفين اليمينيين والدينيين: إن التأثير المتزايد للمتطرفين اليمينيين والدينيين داخل إسرائيل يجعل من الأقل احتمالًا أن تُعامِل الدولة جيرانها بتسامح، وهو شرط أساسي لتحقيق الهيمنة الإقليمية الدائمة من خلال القبول.

3- غياب “الأمن الحر”: على عكس القوة المهيمنة الإقليمية الحقيقية مثل الولايات المتحدة، لا تتمتع إسرائيل بـ”الأمن الحر”. إن قادتها ينظرون دائمًا إلى معضلة الأمن باعتبارها مسألة جوهرية لبقاء الكيان، ويستشعرون الحاجة إلى الاستباق لمواجهة التهديدات المتخيلة، مثل البرنامج النووي لإيران الذي تأكد أنه يحمل طابعًا سلميًا، مما يشير إلى افتقار أساسي للأمن الذي تتمتع به قوة مهيمنة حقيقية.

يُضاف إلى هذا التنافس الذي يصل إلى تناقض المصالح بينها وبين كلٍّ من مصر وتركيا.

وهكذا، فإنه على الرغم من قدراتها العسكرية والاستخباراتية الكبيرة، فإن إسرائيل لا تزال تعتمد بشكل أساسي على الولايات المتحدة، وتواجه تحديات سياسية داخلية وخارجية لم تُحل.

لقد نجحت إسرائيل في ترسيخ الهيمنة العسكرية على جيرانها العرب، وهي الآن تحاول أن تؤكد تفوقًا مماثلًا على إيران، إلا أن صراعاتها لن تتوقف، وقد تمتد إلى تركيا في سوريا، بالإضافة إلى تهديد التهجير للأمن القومي المصري.

إن بنية مشروعها الاستيطاني الإحلالي، المندمج في المصالح والاستراتيجيات الغربية بقيادة الولايات المتحدة، قد يمنحها التفوق العسكري والتكنولوجي؛ إلا أنه، في الوقت نفسه، يحول دون هيمنتها الإقليمية.

لكن السؤال الذي يستحق المتابعة: هل تمنح لها الحكومات العربية هذه الهيمنة من خلال اتفاقات التطبيع، والسكوت على ما يجري من عدوان على إيران؟

المصدر: فكر تاني

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى