
تسارعت الأحداث خلال الأيام الأخيرة في مشهد إقليمي غير مسبوق، أعاد تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، بعد أن وصل التصعيد بين إيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من جهة أخرى، إلى حافة الانفجار الشامل فكانت الحرب والمواجهة العسكرية المباشرة.
ومع ذلك، يبدو أن كل الأطراف اختارت التراجع في اللحظة الأخيرة، خوفًا من امتداد زمن الحرب ، وفي ظل ذلك كانت الضرورة الإعلامية تستوجب البحث عن الخروج بمشهد الختام الذي يحفظ لكل طرف جزءًا من الهيبة والادّعاء بالانتصار، ولم يكن هذا مقبولا ايرانيا إلا باستهداف قواعد عسكرية أمريكية تم هندسة كل مشاهدها عسكريا واعلاميا فكانت قاعدة العديد في قطر.
خرجت إيران من المواجهة دون أن تحظى بمكسب كبير في منطق الصراعات الكبرى، فما كان يعتقد عاقل عليم بالإمكانات والقدرات لأطراف الصراع أن من بين بنوك الأهداف الإيرانية تحقيق نصر ساحق، بقدر ما كان أهم هدف هو الصمود وتوجيه رسائل بالقدرة على الردع، وهذا ما انتصرت فيه ايران تماما وحققته على الأرض.
فتمكّنت من ضرب مواقع إسرائيلية، وأظهرت قدرة على الرد على مدار 12 يوما من الحرب، رغم تفوق خصومها جوًا وتسليحا ومخابراتيا ، فكان طبيعيا أن بنيتها العسكرية والأمنية تتلقى ضربات كشفت ثغرات ونقاط ضعف واضحة في البنية العسكرية، تجعلها أمام فرصة ذهبية لإعادة الترميم، وتحسين جاهزيتها للمرحلة القادمة، خصوصًا فيما يتعلق ببرنامجها النووي.
أما إسرائيل، فالمعادلة كانت أكثر تعقيدًا.
ربما لم تحقق نصرًا حاسمًا ضد إيران، لكنها نجحت في تحقيق أهم أهدافها في تعطيل مشروعها النووي ولو مؤقتًا، واغتيال قيادات عسكرية وعلمية مؤثرة ، وفي إظهار قدرتها على توجيه ضربات دقيقة ، ومع ذلك، فإن ما تلقته من ردود إيرانية لم يسبق أن عرفته تاريخيا منذ تأسيسها عام 1947، ولعل أكثر ما يؤلمها هو أنها لم تستطع منع الضربات، بل تلقّتها داخل عمقها الاستراتيجي، وظهر جليا اختراق وعجز أكبر منظومة دفاع جوي عالمية ، ما يهزّ صورتها كقوة ردع حيث عجزت قدرة الدفاع الجوي في إسرائيل على توفير حماية كاملة من الهجمات الصاروخية، حيث أسفرت الهجمات الإيرانية عن تسكين الملايين في الملاجئ ، ومقتل وجرح العشرات من الإسرائيليين، ودمار في عدد من المدن الإسرائيلية وخسائر اقتصادية فادحة.
ومع استمرار عجزها عن حسم الموقف في غزة، وتدهور صورتها الدولية، تبدو تل أبيب في لحظة فقدان لتفوقها التقليدي في المنطقة.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد عززت صورتها الذهنية كدولة قوية ، وفاعلة في الحرب والسلم ، وحافظت على مصداقيتها وثقة المجتمع الإسرائيلي بحماية دولة الاحتلال ، واستطاعت أن تحاصر إيران، وتكبح طموحاتها، دون الدخول في مستنقع فوضوي قد يُسقط النظام الإيراني ويفجّر المنطقة.
كذلك، بعثت برسائل قوية لحلفائها من جهة، ووضعت سقفًا لطموحات نتنياهو من جهة أخرى، وضمنت استقرار الخليج ومنعت تفجّر جبهات جديدة مثل العراق ولبنان واليمن ، فحققت مكاسبها بإدارة ذكية للمواجهة والصراع من دون أن تُستنزف فيها.
وربما المكسب العربي الوحيد وسط هذه التوترات، تعميق ايمان الشعوب العربية وكافة الأطراف بأن دولة قطر تظهر دائما عند الصراعات والنزاعات كلاعب دبلوماسي مهم، يتحرّك بهدوء لكنه يصنع تأثيرًا.
جهود الوساطة التي تقودها الدوحة بين الأطراف، تؤكد من جديد مكانتها كلاعب إقليمي قادر على التواصل مع الجميع، والتأثير في لحظات التأزّم.
النتيجة حتى الآن؟ لا أحد انتصر كليًا، ولا أحد هُزم نهائيًا، لكنها جولة انتهت بتغييرات واضحة في موازين الردع والهيبة، إيران ستعيد حساباتها، إسرائيل ستراجع ضعفها، وأمريكا ستبقى المايسترو الذي لا يظهر على المسرح كثيرًا لكنه يُمسك بالخيوط كلها.
الجولة انتهت… لكن الحرب لم تنتهِ.