راشد الغنوشي.. مفكر النهضة في مواجهة الاستبداد: سيرة فكرية تُكتب خلف القضبان

إسطنبول– مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية
في ذكرى ميلاده الرابعة والثمانين، لا يحتفل الشيخ راشد الغنوشي بين الأهل والأحبة، بل يقضي يومه داخل زنزانة ضيقة في تونس، بينما يبقى فكره متسعًا، حرًّا، ومجددًا. بهذه المفارقة المؤلمة، أصدر مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية ورقة فكرية بعنوان: “راشد الغنوشي: المشروع الفكري لشيخ النهضة وتحديات الاجتهاد الإسلامي المعاصر”، ضمن سلسلة “رموز الفكر والحرية”.
ورقة بحثية تحليلية تُعيد قراءة تجربة أحد أبرز رموز الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث، في لحظة فارقة تتقاطع فيها السياسة بالقمع، والدعوة بالفكر، والحرية بالاعتقال.
مفكر لا يُختصر في السياسة
الغنوشي ليس مجرد زعيم حزبي ولا معارض سياسي مخضرم، بل هو مفكر إسلامي تجاوز التنظير ليخوض غمار الممارسة، واضعًا نصب عينيه التوفيق بين الشريعة والديمقراطية، والحرية والهوية. من السجون والمنفى إلى قاعات البرلمان وتجربة الحكم، ظلّ الرجل وفيًّا لمشروعه الإصلاحي، مؤمنًا بإمكانية بناء دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية تحترم التعددية والكرامة الإنسانية.
مشروع فكري ثلاثي الأبعاد
تستعرض الورقة أبرز ملامح المشروع الفكري للغنوشي، وترتكز على ثلاث دعائم أساسية:
1. فقه الحريات والشورى: حيث قدّم تصورًا متكاملًا لربط القيم الإسلامية بالديمقراطية، واعتبر الحرية أصلًا شرعيًا، وليست مجرد وسيلة.
2. المصالحة بين الإسلام والحداثة: من خلال نقد الحداثة الغربية دون رفضها، وسعيه لتوطين مفاهيم مثل المواطنة وحقوق الإنسان ضمن المرجعية الإسلامية.
3. الجمع بين الدعوة والسياسة والفكر الحضاري: حيث ظل فكره متصلًا بالواقع، غير منعزل عن قضايا الناس ولا غارق في التنظير المجرد.
بين المفكرين: موقع متقدّم وخصوصية منهج
تقارن الورقة بين الغنوشي وأبرز رموز الفكر الإسلامي المعاصر من أمثال المودودي، وسيد قطب، وحسن الترابي، والقرضاوي، لتخلص إلى أن الغنوشي يمثل حالة خاصة تجمع بين النظرية والتطبيق، وبين الاعتدال والاجتهاد، وبين الانفتاح على العصر والتمسك بأصالة المرجعية.
وتمضي الدراسة لتضعه في موقع متقدّم داخل مدرسة “الوسطية الإسلامية”، باعتباره من القلائل الذين جمعوا بين التجربة الفعلية في الحكم والمشروع الفكري الناضج.
من الفكر إلى السجن… دلالات اعتقال الغنوشي
ترى الورقة أن اعتقال الغنوشي في أبريل 2023 لم يكن استهدافًا لشخصه فحسب، بل محاولة لتصفية مسار فكري وسياسي يمثل “الاعتدال الإسلامي”. فقد تحوّل الغنوشي إلى رمز حيّ لفكرة التعايش بين الإسلام والديمقراطية، وجسرٍ معرفي بين التيارات الفكرية الإسلامية والحداثية.
ويسلط التقرير الضوء على خيبة التجربة الديمقراطية في تونس، حيث تحوّل الربيع إلى خريف سياسي، بعد انقلاب يوليو 2021، وانهيار التعددية، وعودة الدولة البوليسية.
صمت عربي ومواقف دولية مترددة
تكشف الورقة أن الصمت الرسمي العربي إزاء اعتقال الغنوشي يعكس اصطفافًا إقليميًا ضد التيارات الإصلاحية والرموز الفكرية المعتدلة. أما المواقف الدولية، فقد اقتصرت على بيانات إدانة من منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، دون ضغط سياسي فعلي، ما يعكس ازدواجية في تعامل الغرب مع الحريات حين يكون الضحية إسلاميًا.
الغنوشي… فكر لا يُعتقل
ترى الورقة أن الخطر الذي يمثله الغنوشي بالنسبة للأنظمة الاستبدادية لا يكمن في شعارات أو شعبيته فقط، بل في صلابة الفكرة التي يمثلها، ومدرسة الاعتدال التي أسسها. وقد استطاع – رغم كل الانتقادات – أن يرسخ مشروعًا فكريًا متماسكًا، يوازن بين المبادئ والتدرج، وبين العقيدة والتعددية، دون أن يتورط في العنف أو يهادن الاستبداد.
دعوة لتضامن واسع… ومشروع استنهاض جديد
دعت الورقة إلى ما هو أكثر من مجرد حملات تضامن موسمية، مطالبة بتحويل قضية الغنوشي إلى رمز للحرية والكرامة في العالم الإسلامي، والضغط الدولي من أجل الإفراج عنه فورًا. كما قدّمت توصيات عملية، أبرزها:
• تشكيل جبهة فكرية وحقوقية دولية لدعم قضيته.
• إعادة نشر مؤلفاته، خاصة في أوساط الشباب والجامعات.
• اعتماد ذكرى ميلاده يومًا رمزيًا للحرية الفكرية في العالم الإسلامي.
خاتمة: الحرية لفكر الأمة… لا لمجرد فرد
تختتم الورقة بالتأكيد على أن بقاء الغنوشي خلف القضبان هو إهانة لفكر الأمة، ووصمة عار على جبين كل من يدّعي الدفاع عن الديمقراطية. فهو يُسجن لا لأنه أخطأ، بل لأنه اجتهد… لا لأنه فاسد، بل لأنه مثّل ضمير أمة تبحث عن طريق ثالث بين التطرف والاستبداد.
“الحرية لراشد الغنوشي… فليخرج حاملًا فكره لا قيده.”