مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: ورقة من مذكّراتي.. الكلب..وإبراهيم عيسي.. وحريّتي



سألتني زوجتي دعاء حسن لماذا انت مقل علي غير المعتاد في كتاباتك في الأيام الأخيرة؟ لم أجب على السؤال، لكني قررت أن اكتب هذا المقال:
لم أكتب يومًا لأملأ فراغًا، ولا لأنني أحترف الحروف كما يحترف صديقي” جمال ” نجار الشرق المسمار والخشب…
بل كتبتُ -دوما- لأنني بحاجة أن أتنفّس. ولأن الورق كان دائما رئتي حين تضيق أنفاسي، فالحبر هو دمي حين تجفّ عروقي.
الكتابة بالنسبة لي ليست هواية… بل حياة أخرى… أكثر صدقًا، أكثر وجعًا، لكنها الوحيدة التي عشتها واعيشها بكامل حريتي.

أكتب أحيانًا أكثر مما ينبغي، كمن يفرغ قلبه لا محبرة، وكأن الحروف تنزلق من أطراف أناملي دون أن أستأذنها. أتنفّس عبر سطور لا ترى، وأصرخ في فراغ لا يسمع، ولكنني أعرف يقينًا أن الكلمات تصل… تصل لمن يختنقون دون أن يملكوا حق أن يقولوا: “أشعر بالألم”. وأحيانًا… يُؤخذ مني حق الكتابة قسرًا، كما يُؤخذ النور من العين المجهده.
ما أقسى أن تُنتزع حريتك لا من جسدك..بل من قلمك!
ما أقسى أن تملك ما تقول، لكنك ممنوع من القول..وأن تملك ما تكتب، لكنك محروم من الورق.عشت في حياتي هذه التجربه مرات عديدة.

لا أنسى ذلك اليوم الرمادي من ربيع عام ٢٠٠٠…
ثلاثة اتصالات في ساعات قليلة، من ثلاث صحف كنت أكتب فيها بانتظام: “أكتوبر”، “الأحرار”، و”الميدان”.
اتصالات تختنق بالأسى وتتنصّل من المقال.
وكان آخرهم الدكتور صلاح قبضايا، رئيس تحرير “الأحرار” رحمه الله، الذي قال لي بصوت صريح كصفعة:
“هل اتصل بك رئيس تحرير مجلة أكتوبر؟”
قلت: “نعم، واعتذر عن نشر مقالي هذا الأسبوع”.
فقال قبضايا: “وللأسابيع القادمة أيضًا…”
صمتُّ للحظة.
قال: “أفهمك ما حاولوا أن يهمسوا به: هناك قرار من فوق… أعلى من كل مقاومه.”

فهمت… كما يُفهم الوجع دون أن يُقال.
فقد كنت لتوي قد ترشحت لوكالة مجلس الشعب، وحقّقت نتيجة أربكت معادلة السلطة، وقلقت مضجع الرئيس.
فما كان منه إلا أن اختار الردّ على طريقته:
لا قلم، لا مقال، لا ظهور.
وتحوّل القرار إلى صمتٍ قاتل… لا يُدوَّن… لكن يُنفَّذ بدقّة مشرط.

ورغم الحصار، لم أُسكت. كتبت…
ولكن في صحف لا تُطبع في مصر،
وفي منابر لا تُشرف عليها الرقابة،
وفي أرواح لم تكن بحاجة إلى تأشيرة عبور.

ثم جاءت الضربة الثانية… أقسى، وأشد مرارة.
بعد أيام من أول انتخابات رئاسية تُوصف بـ”التعددية”، وجدت نفسي خلف القضبان.
في البداية، لم يُزعجهم قلمي… حتى زارني في السجن اللواء محمود وجدي، رئيس مصلحة السجون آنذاك، وقال لي بصراحة لا أعرف إن كنت أكرهها أم أقدّرها:
“الرئيس مبارك قرر منعك من الكتابة من داخل السجن.”

شعرتُ حينها أنني أُخنق لا داخل الزنزانة… بل داخل رأسي.
هل يُسجن القلب مرتين؟
مرة خلف القضبان، ومرة خلف صمتٍ مفروض؟
لكنني قاومت…
وكتبت…
وهرّبت كلماتي كما يُهرّب الحنين…
بأوراقٍ مطويّة،
بأنفاسٍ خافتة،
بعيونٍ تفهم أن الصمت… ليس دائمًا طاعة.

حتى جاءت لحظة عدل مضيئة… لحظة كرامة وقعها حبر قضائي شريف.
حكمت محكمة القضاء الإداري، برئاسة المستشار النبيل #أحمد_الشاذلي، بحقي في الكتابة داخل السجن، وألزمت مصلحة السجون بتسليمي أوراقًا وأقلامًا وأوراق كربون شهرية.

نفّذت السجون الحكم… ولكن بطريقتها.
سلّموني الأوراق، والكربون، والأقلام،
ثم جاءوني كل صباح للتفتيش،
يعدّون الورق ورقةً ورقة،
كأنهم يعدّون أنفاسي… خشية أن تخرج ورقة واحدة إلى النور.

قالوا لي:
“الحكم أعطاك الحق في أن تكتب… لكنه لم يمنحك الحق في أن تخرج ما كتبت من السجن.”
فصار الورق الممنوح لعقلي.. مسجونًا معي في الزنزانة.

لكن الله يلقي كيده حيث لا يُحتسب.
الحكم منحني أيضًا “دفتر كربون”. لم أفهم الحكمة منه في البداية، إلى أن اكتشفت أن الشركات المصنعة لأوراق الكربون تضع بين كل ورقة وأخرى… ورقة زبدة رقيقة، تكاد لا تُرى.

لم يكن أحدهم يعلم أن هذه الأوراق الشفّافة ستكون هي طوق نجاتي… كانت السجون تعدّ الأوراق فقط… لكنها لم تنتبه إلى مائة ورقة “خارج العد”، كانت تصلني رسميا ، شهريًا بين الكربون. فصارت تلك الأوراق الرقيقة، هي نوافذي اليومية للحرية.

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان…
في أحد أيام السكون الرهيب، دخل كلب من كلاب الحراسة زنزانتي بالخطأ.
دخل كأنه مُرسل من السماء،
فأصاب جميع الحراس الذهول، وعمّت حالة من الارتباك.
كانوا يخشون حتى الاقتراب من الكلب.

تقرر استدعاء ضابط وحدة الكلاب البوليسية، ذاك الذي لم يكن من طاقم السجن، بل يأتي فقط لإطعام الكلاب، وفكّ قيودها مساء، وربطها مجددًا في الصباح.

دخل الضابط زنزانتي. نظر إلى عينيّ، ثم إلى الكلب، وقال بهدوءٍ نادر كيف وردت هذا الكلب الشرس ، هل انت ساحر ام فيك شيء لله
قلت:ربما الاثنين معا!
قال لي:
“هل يمكنني أن أقدّم لك شيئًا؟”
فقلت له، وكأنني كنت مستعدًا لهذا السؤال منذ سنوات:
“كل يوم، حين تطعم الكلب، ستجد بجواره لفافة صغيرة جدًا من الورق… فقط ضعها في جيبك واذهب بها إلى بيتك، وسيأتيك مكوجي من الجوار يحمل ملابسك للكي، ويجد تلك الورقة داخلها… هو يعرف تمامًا ما عليه فعله.”

هزّ الضابط رأسه… وفعل.
وبهذا، بدأت أعظم مغامرة حبر عرفتها حياتي.
كان المكوجي يحمل الورقة مطويّة بين الملابس المكويّة،
ويوصلها إلى منزلي، فتأخذها زوجتي، وتُرسلها إلى الصديق العزيز إبراهيم عيسى، لينشرها في “الدستور” كما هي:
طازجة… ساخنة… تحمل حرارة الزنزانة، وشجاعة ابراهيم عيسي، الذي لم يخضع لضغوط كثيره، لمنع نشر مقالي اليومي.او الكشف عن طريقه وصول كتاباتي يوميا اليه

ظلّت تلك العملية تمضي في صمت..والسجن يغيّر الضباط، ويستبدل الحراس، بل وينقل السجناء أنفسهم،
علّهم يجدون طريقة تمنعني من الكتابة، لكنهم نسوا أن “الكلب” كان أكثر إنسانية من كثير من البشر..وأن الكتابة لا تُمنع… لأنها لا تأتي من اليد، بل من الأعماق.

كلما حاولوا سجن قلمي، وجدت نافذة في جدار المستحيل..وكلما ضاقت الزنزانة، كتب الحبر طريقه نحو الضوء.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى