ملفات وتقارير

طقوس رأس السنة الهجرية في مصر بين الورع والخرافة والمصالح الخفية

رغم مرور أكثر من 14 قرنًا على حدث الهجرة النبوية، لا تزال ليلة رأس السنة الهجرية في مصر تشتعل بطقوس متوارثة، يراها البعض نورًا وعبادة، بينما يصفها آخرون بأنها خرافات باسم الدين.

وبين أدعية تُتلى على أضواء الشموع، وحلوى تُباع في الأسواق، وشيوخ يدعون للتأمل لا التهريج، يتحول السؤال إلى جدل: هل نحتفل إحياءً لذكرى عظيمة، أم نمارس عادات بلا سند؟

موقع “أخبار الغد” يفتح هذا الملف الشائك بلا محاباة، ويغوص في أعماق المجتمع المصري، حيث تتقاطع أصوات الفقه والدين، مع صدى العادات والاقتصاد، في مشهد تتجلى فيه مصر بطبقاتها المتعددة، وتقاليدها المتشابكة، ووعيها الذي لا يزال يبحث عن الحقيقة وسط الزينة والمواكب!

عادات مصرية في رأس السنة الهجرية .. إيمان أم ابتكار؟

مع حلول كل عام هجري جديد، تتنوع مظاهر الاحتفال في ربوع مصر، وتتصاعد الأصوات بين مرحّب بهذه الطقوس باعتبارها موروثًا دينيًا واجتماعيًا، وبين من يراها خلطًا بين الدين والعادات، وأحيانًا يذهب البعض إلى وصفها بأنها وسيلة لتكريس مفاهيم غير صحيحة باسم الدين.

موقع “أخبار الغد“، يرصد من خلال شهادات موثقة لمواطنين وخبراء ومهتمين، أبرز ما يدور حول هذه الطقوس، وتناقض الآراء بشأن مشروعيتها ومغزاها وتأثيرها على المجتمع المصري.

احتفالات .. أم مظاهر شكلية؟

أوضح عبدالرحمن شكري، موظف بالهيئة العامة للبريد، أن ليلة رأس السنة الهجرية بالنسبة له ولأسرته تعني جلسة روحانية مميزة، حيث يجتمعون للاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم، ويتناولون حلوى تم إعدادها خصيصًا لهذا اليوم،

مضيفًا: “هي عادة ورثناها عن جدودنا، فيها لمّة العيلة وذكر لله، حتى لو مفيش فيها صخب، لكن فيها سكينة وطمأنينة .. لا نرى فيها ضررًا، بل نراها بركة ببداية عام جديد”.

أكدت سامية عبدالغفار، معلمة بالتربية والتعليم، أن هذه المناسبة تمثل بالنسبة لها وقفة مع النفس، حيث تكتب قائمة بأهدافها للسنة الجديدة،

مشيرة إلى أنها تستغل هذا اليوم في عمل الخير وزيارة أقاربها “العادات بتختلف، بس الرسالة واحدة . بداية جديدة وأمل في تغيير للأحسن”.

أشار الدكتور هشام توفيق، أستاذ علم الاجتماع بإحدي الجامعات، إلى أن هذه المناسبة أصبحت تُمثّل حالة رمزية لمفهوم “الزمن المقدس” في الوجدان الشعبي المصري، وأنه رغم تراجع الطابع الجماعي الرسمي للاحتفال بها، إلا أن المجتمع الريفي تحديدًا لا يزال يحتفظ بطقوسه الخاصة مثل إعداد الأرز باللبن وقراءة السيرة النبوية في المنازل.

تجديد أم تشويه؟

أوضح الشيخ مصطفى المغربي، أن الاحتفال برأس السنة الهجرية يجب أن يتم بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية،

مؤكدًا أن ما يحدث من خلط بين الدين والعادات الشعبية يجب أن يُضبط: “إحنا لا ننكر أهمية الذكر والتأمل في الهجرة، لكن مظاهر مثل إشعال البخور أو تعليق التمائم لا تمت للدين بصلة ودي خرافات لازم نتوقف عندها”.

أكدت منى حسن، ربة منزل من محافظة بني سويف، أنها تحرص على إشعال الشموع ليلة رأس السنة الهجرية، وتضع “ماء الورد” في أركان المنزل، وتقرأ سورة “يس” بنية جلب البركة “أنا مش دارسة دين، لكن اتعلمت من أمي وجدتي إن دي حاجات بتجيب الخير، وحتى لو مش من الدين، هي ما بتضرش”.

أشار الدكتور كمال رياض، أستاذ التاريخ الإسلامي، إلى أن الاحتفال بالهجرة النبوية لم يكن معتادًا في صدر الإسلام، وتم تقنينه لاحقًا من الدولة الفاطمية،

حيث أدخلت طقوسًا شعبية ذات طابع احتفالي لأغراض سياسية “ما نراه اليوم في بعض البيوت المصرية من طقوس ترجع أصوله للسياسة أكثر من الدين”.

مصلحة تجارية مغلفة بالدين؟

أوضح أحمد خليل، تاجر في حي السيدة زينب، أن هذه المناسبة تشهد إقبالًا على شراء الحلوى والمجسمات الدينية مثل مجسم الكعبة والهلال “في ناس بتستغل المناسبة تجاريًا وبتروج لمنتجات ما لهاش علاقة بالمناسبة، بس السوق عرض وطلب، وطالما الناس عايزة كده فده رزق مشروع”.

أكدت مريم حلمي، باحثة في الثقافة الشعبية، أن بعض العادات التي تُمارس في هذه المناسبة ترسخ لفكرة الاستهلاك الديني دون فهم حقيقي: “بنشوف إعلانات لشركات بتبيع منتجات مكتوب عليها ‘كل عام وأنتم بخير’ بسعر أغلى لمجرد الربح، والدين هنا بيتحول لأداة تسويق”.

أشار مصطفى عبد الرؤوف، عامل بمخبز، إلى أن الإقبال على شراء المعجنات الخاصة بالمناسبة كبير، قائلًا: “الناس بتحب تحس بالمناسبة، وده بيخلينا نشتغل أكتر، والمخبوزات دي بقت شبه العيد عندهم”.

تجارب فردية تتباين .. والوعي هو الحل

أوضحت نهلة إبراهيم، طالبة جامعية، أنها لا تجد ضرورة لهذه الطقوس، وتفضل قراءة سيرة النبي والهجرة عبر كتب ومراجع علمية، مشيرة إلى أن بعض مظاهر الاحتفال تسيء للفهم الصحيح للتاريخ الإسلامي.

أكد محمود زيدان، متقاعد، أن العادات مهمة للحفاظ على الهوية، حتى وإن كانت غير دينية خالصة: “مش لازم كل حاجة نبص لها من منظور حرام أو حلال .. إحنا بنفرح، ودي حاجة مش ضد الدين”.

أشارت الدكتورة نجلاء حسين، أخصائية علم النفس، إلى أن هذه الطقوس تمثل متنفسًا نفسيًا للأسرة المصرية، مؤكدة أن الإنسان يحتاج إلى محطات زمنية يعيد فيها ترتيب حياته، حتى لو اختلفت طرق التعبير.

أوضح باسم الديب، شاب يعمل في مجال البرمجة، أن رأس السنة الهجرية تمر عليه مرور الكرام، ولا يشعر بها كحدث حقيقي: “يمكن ده تقصير مني، بس الصراحة إحنا كشباب مش حاسين إن في حاجة ملموسة بنعملها في اليوم ده، مش زي رأس السنة الميلادية مثلًا”.

أكدت فاطمة البربري، كاتبة متخصصة في الشأن الصوفي، أن هناك مبالغات في بعض الطقوس الصوفية خلال هذه المناسبة، لكنها ترى أن الأصل فيها هو الحب والتأمل: “كل مريد بيحتفل على طريقته، المهم إن قلبه يكون متوجه للنبي، والمبالغة أحيانًا بتضر الرسالة الأصلية”.

بين التقديس الشعبي والرفض الديني: مستقبل الطقوس إلى أين؟

أشار الدكتور حسام فاروق، أستاذ الفقه المقارن، إلى ضرورة وجود خطاب ديني يوازن بين احترام العادات وتصحيح المفاهيم: “ما نحتاجه هو تجديد للوعي وليس الهجوم على كل مظهر شعبي، لأن التغيير لا يأتي بالقوة بل بالفهم”.

أوضح المهندس عبد الله بدر، أحد المهتمين بالتراث، أن الاحتفال برأس السنة الهجرية فرصة لإحياء التراث بشكل مسؤول، داعيًا لتوثيق العادات الجيدة وتصفية ما يخالف الفطرة والعقل.

أكدت دينا فخري، ناشطة في مجال التثقيف المجتمعي، أن التعليم هو حجر الزاوية: “لو الناس فهمت معنى الهجرة الحقيقي، وهي فكرة الانتقال من السيئ إلى الأفضل، كنا هنحتفل بشكل أعمق مش شكلي”.

احتفالات رأس السنة الهجرية في مصر تتراوح بين البُعد الديني والشعبي والتجاري، وتكشف عن تعقيدات في نظرة المجتمع إلى المناسبات الدينية، حيث تتداخل المشاعر والاعتقادات والعادات.

وفي ظل هذه التباينات، يبقى الرهان الأكبر على وعي الناس والمؤسسات بتوجيه الاحتفال إلى معانيه العميقة، لا الاكتفاء بمظاهره السطحية.

وهكذا، بين أصوات تترنم بالمدائح النبوية وأخرى تصرخ رافضة الخرافة، تتأرجح مصر كل عام في ليلة رأس السنة الهجرية على حبل مشدود بين الإيمان الشعبي والوعي الديني.

فما بين شموع تُشعل وقلوب تتضرع، وأسواق تنتعش وأفكار تتنازع، يبقى السؤال المُلِحّ: هل نُجيد تمييز المقدس عن المُتوارث؟ وهل ما نحتفل به يُقرّبنا من روح الهجرة النبوية، أم يُغرقنا في دوامات العادة والتقليد؟

بين فتاوى وطقوس، وخشوع واحتفال، آن الأوان لإعادة النظر لا في المناسبة، بل في طريقتنا في استقبالها.

فإما أن نُحيي المعنى الحقيقي للهجرة بكل ما فيها من تضحية وتغيير وتجرد، أو نستمر في إعادة إنتاج طقوس قد تُرضي العاطفة… لكنها تقتل الفكرة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى