
هنالك شيء مؤلم في داخلي، بعد أكثر من عشرين عامًا فالمذيوب ي الخارج، تونس والتونسيون لديهم أساطير، وإيقونات، ومنجزات حضارية، لكنهم فاشلون جدًّا في تثمينها، ناهيك عن الترويج لها وتعزيز صورة تونس المشرقة في الحضارة الإنسانية.
أعتقد أن جميع التيارات المناضلة دفعت أثمانًا باهظة من حريتها، وأجسادها، وتوازنها النفسي، ومخزون حياتها في مقاومة الاستبداد.
كانت ولا تزال هناك قصص إنسانية مؤثرة ومزلزلة وفظيعة، لو وجدت مخرجًا محترمًا، لأبدعت أحد أعظم وأجمل الأفلام السينمائية في التاريخ. وإذا كان عموم التونسيين قد فشلوا في التعريف بقصص كفاحهم ومنجزاتهم عبر التاريخ، فإن فشل الإسلاميين هنا مضاعف، بحجم المأساة وعمق الألم.
السيد بواروي مخلوف، ابن مدينة سوسة، جوهرة الساحل التونسي ودارة النضال والرجال.
يبلغ “الري”، كما يحلو لعزالدين جنيح ـ مدير أمن الدولة عام 1991 ـ اليوم 65 عامًا، قضى منها قرابة العشرين عامًا
في المعتقلات، ما بين 1987، ومن أفريل/أبريل 1991
إلى نوفمبر 2008.ويُضاف إليها أيام طوال في بلاد الله الواسعة داخل تونس، متخفيًا عن أعين الرقيب.
لكن يبقى الأهم في قصة بواروي مخلوف، أنه بلا منازع، أكثر إنسان عُذّب بقوة ووحشية وعنف في تاريخ تونس المعاصر، مقابل صمود أسطوري، ورباطة جأش، وعزيمة فولاذية، وطاقة تحمّل ربانية، وابتسامة ساخرة، ونكتة حاضرة أمام أصعب وأقسى وأوحش المواقف.
مأساة الإسلاميين في تونس خلال التسعينات والعقد الأول
من الألفية، هي قصة عظيمة لرجال ونساء أفذاذ في مقاومة الاستبداد.
لكن، وللأسف الشديد، غابت عن ذاكرة الكتب، وألبوم الذاكرة، وشاشات التلفزيون، ومرايا السينما، وبقيت محفورة فقط في صدور الرجال الذين يستعدون للمغادرة.
لم أتشرّف بمعرفة بواروي مخلوف في “السيفيل”، كما يُقال.
اكتشفت جوانب من الأسطورة في غرفة C17 بـ”السيونالونات” بسجن 9 أفريل بالعاصمة.
جاءنا من أقبية وزارة الداخلية، يمشي بشكل استثنائي يعجز القلم عن وصفه… هو وولد حومته ورفيقه في الحياة سي عبد الفتاح العظيم.
ولتقريب الصورة، وبدون أي مبالغة: كانا يمشيان كالسلحفاة، حرفيًا.
يُضاف إلى ذلك كسر فظيع في العمود الفقري، واقتلاع تام لعشرة أظافر لعشرة أصابع لدى سي بواروي مخلوف، وتداعيات خطيرة وغير مسبوقة على مستوى الرئتين، نتيجة للكميات المهولة من المياه الآسنة التي أُجبرا على ابتلاعها في آلية التعذيب الوحشية المسماة بـ”البانو”.
في مأساة التسعينات، شيئان دمّرا راحة زين العابدين بن علي:
خروج الشيخ قبل أن يعتقله،والصمود الأسطوري لبواروي، الذي كان عزالدين جنيح يترجّاه حرفيًّا للإدلاء بمعلومة نوعية واحدة يرفعها إلى رئيسه المباشر بن علي، لينال الشكر بدلًا من توبيخ الفشل الدائم.
ورغم أن بواروي مخلوف ذاق جميع آليات التعذيب الفظيعة،
من وضعية “الدجاجة روتي”، إلى ليالٍ كاملة في “البانو”، وصولًا إلى الضرب الجنوني القاتل واقتلاع الأظافر، فإنهم لم يحصلوا منه سوى النكت الساخرة وبعض “الشب “في عيونهم..لقد كان رجلًا صلبًا، وشجاعًا، وبطلًا قوميًا حقيقيًا. “كلاها”
في عضده، ولم يبع صحبه كما هو عهد كثيرون من مدرسة الجماعة الإسلامية، والاتجاه الإسلامي، ثم حركة النهضة. لم يبيعوا دينهم بثمن بخس، ولم يخونوا وطنهم مهما كانت التضحيات.
كان بواروي مخلوف نزيل أقبية الداخلية على فترات متباعدة طيلة فترة سجنه.
قضى أشهرًا في التعذيب المميت، لكنه روى لي أن من أصعب أيامه كان يوم احتُجز قسريًا في فيلا معزولة بضواحي العاصمة، قبل إحالته على “حاكم التحقيق العسكري”، وسط حراسة مقنّعة ومشددة،حتى أثناء دخوله للحمام.وصادف أن سطل ماء صغير انسكب في الحمام، فأثار رعب الحراس، فأشهَروا الكلاشينكوف وكادوا يقتلونه ظنًّا بوجود خطر داهم!
لا أعلم إن كان الرئيس المنصف المرزوقي قد كرّم بواروي مخلوف عند إعادة الاعتبار لثلة شجاعة وصادقة من خيرة الضباط وضباط الصف في جيشنا الوطني العظيم…
لم أرَ بواروي مخلوف في جلسات الاستماع لهيئة الحقيقة والكرامة.لكن، لا شك أنّ قصة هذا الرجل الأسطورة، إن لم تُكتب بعد، فلن تُنسى من ذاكرة الرجال.
بواروي يستحق أسمى معاني التقدير، والاحترام، و الإعتراف بالجميل، لكل ما قدّمه لتونس،ولكثيرين من أبناء تونس…وللقصة بقية،ان كان في العمر بقية، بحول الله وقوته