محمد مرسي بين الدعوة والرئاسة والمحنة.. تجربة الرئيس المنتخب والمشروع المؤجل- تحليل-

مركز حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية
مقدمة
“إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا…”
في تاريخ الشعوب لحظات تختزل كل التناقضات، وتُخرج من رحمها رجالًا يعبّرون عن توق الأمة إلى الحرية والعدالة والكرامة. والدكتور محمد مرسي، رحمه الله، لم يكن مجرد رئيس منتخب في أول تجربة ديمقراطية حقيقية تشهدها مصر الحديثة، بل كان عنوانًا رمزيًا لمسار طويل من النضال الإسلامي المدني، الذي اختار صناديق الاقتراع سبيلاً، والدستور مرجعية، والمجتمع شريكًا، والإيمان منارة.
يصدر مركز حريات هذه الورقة ضمن سلسلة “رموز الفكر والحرية” تخليدًا لذكرى الرئيس الشهيد، وتكريمًا لتجربة سياسية فريدة نُسفت بانقلاب عسكري دموي، لكنه لم يستطع أن ينتزع من الذاكرة الجماعية حقها في استحضار البطولة، ولا أن يشوّه صورة رجل صمد حتى النفس الأخير، وهو يواجه خصوم الداخل والخارج بصبر وثبات وسمو أخلاقي نادر.
لا تستهدف هذه الورقة التقديس، بل الفهم والتحليل والاستلهام. إنها محاولة لاستعادة سيرة رجلٍ انتقل من مقاعد العلم والهندسة إلى ميدان السياسة والرئاسة، فدفع حياته ثمنًا لانحيازه لشعبه، وثباته على مبادئه، وإصراره على استقلال القرار المصري.
إننا في مركز حريات نعتقد أن الحديث عن الدكتور مرسي هو حديث عن مشروع سياسي مؤجل، لا عن سيرة فرد انتهت. وهو حديث عن مستقبل الأمة كما هو عن ماضيها. ومن هنا نفتح هذه الورقة، وفاءً للمبدأ، كما المناسبة، وللأمل، لا للحزن.
التمهيد: لحظة تاريخية لم تكتمل
مهما اختلفت مع الدكتور محمد مرسي، فلا يسعك أمام سيرته إلا أن تحترم تجربته وتقدّر رمزيته. فهو لم يكن مجرد رئيس جمهورية وصل إلى سدة الحكم في لحظة استثنائية من تاريخ مصر، بل كان – بصفته أول رئيس مدني منتخب في تاريخها الحديث – تجسيدًا لحلم طال انتظاره، حلمٌ حملته قوى التغيير، وتبنته ثورة يناير، وخذلته موازين القوة الخشنة.
كان صعود محمد مرسي إلى رئاسة الدولة في يونيو 2012 إعلانًا رمزيًا كبيرًا لانتصار الإرادة الشعبية، لكنه أيضًا كان بداية معركة شرسة مع قوى الدولة العميقة، والتحالف الإقليمي والدولي المناهض للتحول الديمقراطي في المنطقة. لقد أصبح مرسي – من موقعه كرئيس مؤمن بمشروع إسلامي مدني – هدفًا مركزيًا لحملات الإقصاء والتشويه والتفكيك، حتى سقطت تجربته بانقلاب 3 يوليو 2013، وانتهت حياته الجسدية داخل قفص المحكمة، لكن تجربته لم تمت، بل تحولت إلى رمز لصراع أكبر على هوية الدولة، وسبل التغيير، ومعنى الشرعية.
يمثّل الدكتور محمد مرسي حلقة متقدمة في تطور المشروع الإسلامي المعاصر، لا من حيث كونه مجرد عضو قيادي في جماعة الإخوان المسلمين، بل باعتباره نموذجًا لتجربة مزجت بين عمق الفكر، وصفاء الإيمان، وحنكة السياسة، وشجاعة المواجهة، دون أن تتخلى عن حلم التغيير السلمي.
لقد حمل الرجل المشروع الإسلامي – كما فهمه في بعده الإصلاحي الوسطي – على كتفيه، وخاض معركة الحكم في مواجهة مراكز قوى محلية وإقليمية ودولية تفوقه تجهيزًا وخبرة وتخطيطًا، فدفع الثمن غاليًا، لكنه في الوقت ذاته خلّد درسًا بليغًا في الصبر والثبات والمبدئية.
هذه الورقة ليست محاولة لتقديس شخص أو تبرئة تجربة من الأخطاء، لكنها جهدٌ لتوثيق مسار أحد أبرز الرموز الذين عبّروا عن لحظة التقاء الدعوة بالسياسة، والفكر بالواقع، والحلم بالمحنة. وهي دعوة مفتوحة للتفكر في المآلات، لاجتراح مسارات أكثر صلابة، في مواجهة مشروع مضاد يسعى لاستئصال فكرة التغيير من جذورها.
1. القيادة الإخوانية والمفكر الإسلامي: محمد مرسي من الداخل
لم يكن الدكتور محمد مرسي مجرد واجهة سياسية لتنظيم الإخوان المسلمين، بل كان مفكرًا من طراز خاص داخل بنيته، وأحد من ساهموا في تطويره من الداخل، باتجاه صيغة أكثر انفتاحًا وواقعية، دون أن يتنازل عن ثوابته الكبرى.
يحمل مرسي خلفية علمية قوية؛ فقد حصل على الدكتوراه في هندسة الفلزات من جامعة ساوثرن كاليفورنيا، وكان أستاذًا جامعيًا بارزًا في جامعة الزقازيق. هذه الخلفية الأكاديمية انعكست على خطابه الفكري والسياسي، حيث امتاز بالمنهجية، والتحليل المنطقي، والابتعاد عن الخطابة الجوفاء.
ومنذ انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين، برز مرسي في الملفات السياسية والتنظيمية والفكرية. وقد عُرف في صفوف الجماعة بأنه من الداعين لتوسيع قاعدة الشورى، ومراجعة أدوات الفعل السياسي، وتطوير لغة الخطاب العام. كما كان عضوًا بارزًا في “قسم السياسي” داخل الجماعة، وأحد المساهمين في إعداد رؤى متقدمة حول علاقة الإسلام بالدولة المدنية، والتعددية، والتداول السلمي للسلطة.
تجلّت شخصية مرسي الفكرية أيضًا في خطبه العامة، حيث واظب على تضمينها إشارات شرعية رصينة، تستند إلى القرآن والسنة، لكنها لا تكتفي بالوعظ بل تتجه نحو الاستنباط الحضاري والسياسي. ولعل خطابه في مؤتمر الأمم المتحدة عام 2012 أبرز نموذج لهذا المزيج، حيث جمع بين النصوص المؤسسة، والمواقف السياسية، في دفاع صريح عن قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين وسوريا.
وقد سعى مرسي دائمًا لتأكيد فكرة المرجعية الإسلامية دون اختزالها في شكل الدولة الدينية. ففي حواراته المتعددة، كان يُصر على مفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، في محاولة لتجسير الهوة بين التقاليد السياسية الحديثة، والمرجعيات الحضارية الإسلامية. كان يؤمن أن الإسلام لا يعادي الديمقراطية، بل يقدّم نموذجًا أعلى منها في رعاية حقوق الناس وكرامتهم.
ولم يكن هذا الخطاب مجرد مجاملة سياسية، بل انعكاسًا لإيمان مرسي العميق بإمكان التوفيق بين العقيدة والمواطنة، وبين النص والواقع، وبين الهوية والانفتاح، وهي المساحات التي جعلته يُصنّف من قبل كثير من المراقبين ضمن التيار الإسلامي الوسطي الأقرب إلى “الإصلاحية الجديدة” في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
وقد أكسبته هذه الرؤية احترام عدد من المفكرين الإسلاميين والدوليين. فقد وصفه المفكر الأمريكي “جون إسبوزيتو” بأنه: “نموذج للرئيس المؤمن القادر على الجمع بين التدين والديمقراطية، لو تُرك له المجال”. كما أشاد به راشد الغنوشي بعد وفاته قائلاً: “كان مرسي رجلًا صلبًا، متدينًا، ديمقراطيًا… جمع بين الهوية والحرية، ودفع حياته ثمنًا لذلك”.
في النهاية، فإن مرسي مثّل – داخل الجماعة وخارجها – تيارًا يُمكن تسميته بـ”الواقعية الإصلاحية”، وهو التيار الذي كان يوازن بين الاعتبار الدعوي، ومقتضيات الواقع السياسي، ويؤمن بأن مشروع الإسلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالرضا الشعبي، والإقناع، والحكمة، والشراكة.
2. من الدعوة إلى السياسة: مراحل التكوين والعبور
منذ بداياته في قرية العدوة بمحافظة الشرقية، نشأ الدكتور محمد مرسي في بيئة ريفية محافظة، تمزج بين بساطة العيش ووضوح القيم. وقد عُرف مبكرًا بنبوغه الدراسي، الذي مكّنه من الانطلاق نحو القاهرة، ثم إلى الولايات المتحدة، حيث أكمل دراساته العليا، ليعود لاحقًا أستاذًا جامعيًا متميزًا في مجاله، مع انخراط مبكر في صفوف جماعة الإخوان المسلمين.
في هذه المرحلة، تشكّل وعي مرسي على تقاطع ثلاثة محاور كبرى:
• المنهج العلمي الأكاديمي، الذي أضفى على خطابه وتحليلاته طابعًا منضبطًا.
• المرجعية الإسلامية الحركية، التي انخرط فيها من خلال عضويته في الجماعة.
• الإحساس العميق بالمظلومية السياسية والاجتماعية، نتيجة تجربة القمع والتهميش الذي عايشه الإسلاميون، خصوصًا في عهد مبارك.
انخرط مرسي في العمل السياسي العلني من بوابة البرلمان المصري عام 2000، حيث كان أحد أبرز وجوه المعارضة داخل المجلس، ضمن كتلة الإخوان المسلمين. تميز أداؤه البرلماني آنذاك بالقوة، وحسن الاستعداد، وجرأة الطرح، مما أكسبه لقب “النائب الأشهر” في دوائر المعارضة، خاصة عندما واجه حكومة عاطف عبيد في عدد من ملفات الفساد وملفات التطبيع مع الكيان الصهيوني.
لم يكن مرسي فقط نائبًا معارضًا، بل كان جزءًا من النضال الأوسع الذي قادته الجماعة من أجل الإصلاح الدستوري والسياسي. وقد ساهم بوضوح في جهود لجنة صياغة برنامج الجماعة في 2007، الذي أثار جدلًا واسعًا في حينه بسبب تأكيده على فكرة الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، ورفضه للحكم الديني أو العسكري.
في أعقاب ثورة يناير، عاد مرسي إلى الواجهة السياسية من موقع القيادة، ليصبح المتحدث الرسمي باسم حزب الحرية والعدالة، ثم رئيسه، ومرشحًا احتياطيًا للرئاسة خلفًا للمهندس خيرت الشاطر، قبل أن يتحمل المسؤولية التاريخية كمرشح الجماعة الوحيد، بعد استبعاده الشاطر من السباق.
وقد شكلت معركة الانتخابات الرئاسية عام 2012 لحظة مفصلية، حيث انتقل فيها مرسي من حالة “البديل الاحتياطي” إلى “الرئيس الشرعي”، مدعومًا بشرعية شعبية وثورية، وناخبين تجاوز عددهم 13 مليونًا، في مواجهة مرشح الدولة العميقة أحمد شفيق.
في هذا الانتقال، أثبت مرسي امتلاكه لمهارات خطابية ميدانية، وقدرة على اجتذاب الشارع، وإن لم يكن من طراز الخطباء الكاريزميين. كان خطابه مباشرًا، حادًا أحيانًا، يرتكز على مفردات إيمانية وشعبية، ويعكس ثقته العالية برسالة الثورة، وقناعته بأن الإسلام السياسي يجب أن يُمنح فرصة الحكم الرشيد.
أكثر ما ميز تجربة مرسي في هذه المرحلة هو قدرته على الجمع بين انضباط التنظيم، ومقتضيات التحرك السياسي المفتوح، وهي مساحة لا يتقنها كثير من القادة الإسلاميين. كان يتحرك بين المسجد والمنصة، بين البرلمان والشارع، حاملاً في يده مشروعًا سياسيًا واضحًا، يستند إلى الإسلام والعدالة والحرية.
وهكذا، تجسدت في مرسي صورة “الرئيس الإسلامي المدني”، الذي يخاطب الجميع، ولا ينحصر في دائرة الدعويين أو التنظيميين، وهي الصيغة التي أزعجت خصومه، وجعلت من إقصائه أولوية للنظام الإقليمي والدولي.
3. بين القصر والمعتقل: لحظة الحكم واختبار المسؤولية
حين دخل الدكتور محمد مرسي قصر الاتحادية في 30 يونيو 2012، لم يكن مجرد رئيس جديد لجمهورية أنهكها الاستبداد، بل كان أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، وأول رئيس من خارج المؤسسة العسكرية منذ ثورة يوليو 1952. وكان عليه أن يدير دولة عميقة مترهلة، وشبكة مصالح متجذرة، وجهازًا إداريًا يقترب من الانهيار، في بيئة إقليمية ودولية تتحفز للانقضاض على أي مشروع تحرر وطني ذي طابع إسلامي.
1. تحديات الداخل: الدولة العميقة والإعلام والمحيط السياسي
واجه مرسي منذ اليوم الأول تآمرًا متعدد الرؤوس: أجهزة أمنية وعسكرية ترفض التحول الديمقراطي الحقيقي، وإعلامًا خاصًا مملوكًا لشبكات المال والسلطة القديمة يشن حملة ممنهجة لتشويه الرئيس والمشروع، ونخبًا علمانية وليبرالية انسحبت من معركة الثورة والتحقت بمعسكر الفلول.
وقد رفض مرسي ـ رغم التحذيرات ـ التطهير العنيف أو المواجهة الأمنية مع الدولة العميقة، مفضلًا نهجًا إصلاحيًا تدريجيًا يقوم على كسب الوقت وتوسيع قاعدة الشرعية. لكنه دفع ثمن هذه المثالية السياسية، حين تُرك وحيدًا في وجه التآمر، الذي أخذ يتبلور في الميادين والفضائيات، ثم في غرف الجنرالات.
2. محاولات التأسيس المدني: مدنية الحكم لا استبداده
رغم الضغوط، سعى مرسي إلى ترسيخ مدنية السلطة، فاستقال من الجماعة والحزب، وشكل فريقًا رئاسيًا متنوعًا، ضم ليبراليين ومستقلين، وحرص على أن يكون خطابه جامعًا قدر الإمكان. كما قاد عملية كتابة الدستور المصري الجديد عام 2012، في واحدة من أنضج محاولات بناء الشرعية الدستورية بعد الثورة، رغم ما شابها من عثرات.
ولم يرضخ مرسي لمطالب العسكر بحل البرلمان أو الانقلاب على الدستور، بل حاول أن يسلك طريقًا توافقيًا، ودعا أكثر من مرة إلى حوار وطني شامل، لكن معظم خصومه قاطعوا الدعوات، في انتظار لحظة الحسم عبر الشارع أو الجيش.
3. فلسطين في قلب الرئاسة: خطاب الكرامة ورفض الحصار
تميّز عهد مرسي بجرأة غير مسبوقة في الدفاع عن القضية الفلسطينية. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2012، تحدث بوضوح عن حق الشعب الفلسطيني في المقاومة وإنهاء الاحتلال، ورفض أي حديث عن التطبيع. كما لعب دورًا رئيسيًا في وقف العدوان على غزة في نوفمبر 2012، حين قاد وساطة مصرية أنهت القصف خلال 8 أيام، في موقف حظي بتقدير فلسطيني واسع، وجعل من القاهرة في عهده أقرب إلى روح المقاومة من أي وقت مضى.
لم يغلق معبر رفح في وجه الجرحى والمساعدات، بل فتحه طيلة فترة العدوان، وأكد أن مصر بعد الثورة “لن تكون أبدًا عونًا للمعتدي على المظلوم”، وهو ما أغضب تل أبيب وواشنطن، وساهم في تعجيل سيناريو الإطاحة به.
4. سياسة بلا استبداد: بين الحرية والاتهام بالضعف
رفض مرسي قمع المعارضة أو اعتقال الإعلاميين، وواجه حملات التشويه بسقف مرتفع من حرية التعبير، حتى بدت صورته في الإعلام أكثر هشاشة مما هي عليه في الواقع. لم يُستخدم جهاز الدولة لترهيب الخصوم، بل أبقى على استقلال القضاء والنيابة والصحافة، رغم إدراكه أن كثيرًا منها كان متواطئًا ضده.
هذه السياسات، رغم طابعها الأخلاقي، أُوّلت بأنها ضعف، واستُغل انفتاحه السياسي لإشاعة الفوضى وبناء تحالف 30 يونيو، الذي مثّل واجهة مدنية لانقلاب عسكري مكتمل الأركان.
وفي الأول من يوليو 2013، وقف مرسي في قاعة التليفزيون الرسمي مخاطبًا الشعب بخطاب وداع لم يكن يعلم أنه الأخير، قبل أن يُختطف من القصر، وتُغلق بوابات الجمهورية، وتُفتح سجونها، ليبدأ فصل جديد من المعاناة… والمجد الصامت.
4. المحنة والرمزية: الرئيس الذي صمد حتى النهاية
لم تكن محنة الدكتور محمد مرسي بعد الانقلاب مجرد محنة رئيس معزول، بل كانت محنة مشروع وأمة وهوية، اجتمعت فيها قوى الثورة المضادة المحلية والإقليمية والدولية لتصفية رمزية أول تجربة ديمقراطية حقيقية في تاريخ مصر الحديث، عبر تصفية رأسها، ورمزها، وقائدها المدني المنتخب.
1. من العزل إلى المحاكمة: سنوات العزلة والتنكيل
في الثالث من يوليو 2013، اختطف مرسي من قصره دون أي سند قانوني، ودخل في عزلة كاملة عن العالم استمرت سنوات، قاطعًا عن أهله، ومحاميه، وحتى عن متابعة الأخبار. وقد جرى تقديمه لمحاكمات صورية في قضايا ملفقة، أغلبها بني على بلاغات كيدية أو معلومات استخباراتية غير موثقة، من بينها ما سمي بقضية “التخابر مع حماس”، التي تحوّلت لاحقًا إلى عنوان ساخر من العدالة في ظل حكم العسكر.
وخلال جلسات المحاكمة، كان مرسي يصر على تأكيد شرعيته الدستورية، رافضًا الاعتراف بشرعية السلطة الانقلابية. ورغم محاولات إذلاله، لم يتنازل عن وقاره أو نبرة الرجل المؤمن بقضيته. بل أطلق في إحدى جلساته نداءً خالداً: “أنا رئيسكم، وإن بقيت وحدي في هذا المكان، فإن ثباتي نصرٌ لهذه الأمة”.
2. شهادته في المحاكم… ووصاياه الأخيرة
من داخل قفص الاتهام، لم يكن مرسي يدافع عن نفسه فقط، بل كان يدافع عن روح يناير، وحق الشعوب في اختيار قادتها، وكرامة المصريين، وحرية الأجيال القادمة. وقد حرص على تسجيل وصاياه التاريخية – والتي باتت تُتداول كأدبيات لرمزية القيادة الصامدة – منها:
• رفض أي صفقة مقابل خروجه، أو اعتراف بشرعية الانقلاب.
• التشديد على احترام إرادة الشعب التي عبّرت عنها صناديق الانتخابات.
• تحذيره من محاولات تغيير هوية الدولة المصرية، أو تصفية القضية الفلسطينية.
وفي جلسة محاكمة يوم 17 يونيو 2019، تحدث بصوت واهن، ثم سقط مغشيًا عليه، وترك خلفه سؤالًا مفتوحًا عن سبب وفاته في قاعة محكمة تُسيطر عليها الأجهزة الأمنية، وسط تقارير حقوقية عن الإهمال الطبي المتعمّد، وعزله في ظروف غير إنسانية.
3. رمزية مرسي في الوعي العربي والإسلامي
لم يكن مرسي زعيمًا نمطيًا، بل أصبح أيقونة في الوجدان الإسلامي الحديث: نموذج الرئيس الذي لم يساوم، ولم يهرب، ولم يطلب العفو. رجل الدولة الذي تمسك بكرامته في الحكم، وظل على موقفه في السجن، ومات واقفًا على مبدأ، لا على صفقة.
وقد عبّرت شعوب كثيرة عن هذه الرمزية، ففي جنازته الرمزية خرجت صلوات الغائب في تركيا، وماليزيا، وتونس، وغزة، والدوحة، والرباط، وكوالالمبور… وتحوّل قبره البسيط في القاهرة إلى رمز مغلق لجمهورية مغدورة.
كما نعته شخصيات دولية مرموقة، أبرزها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قال عنه: “رحل شهيدًا، عاش شريفًا، ومات مظلومًا، وسنظل نذكّر العالم به حتى تعود مصر لأهلها”. ونعاه رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، وآلاف العلماء والمفكرين حول العالم، باعتباره أول رئيس عربي يختار أن يدفع ثمن مبادئه حتى الموت.
4. الرسالة التي لا تموت
لقد ترك مرسي ما هو أعظم من الرئاسة، ترك رسالة. رسالة تقول إن طريق الحكم ليس طريق مجد دنيوي، بل طريق كفاح وصبر وثبات. وأن المشروع الإسلامي السياسي، وإن تعثّر أو أخطأ، لا يُقوّم بانقلابات، بل بمراجعة داخلية حقيقية ومنافسة حرة نزيهة.
لقد رحل الرجل، ولكن رمزيته تتجدد مع كل هبة شعبية، وكل مقاومة، وكل دعوة للحرية. فكان بذلك القائد الذي لم يتوّج سلطانه على الأرض، بل في الضمير، والذاكرة، والوعي الجمعي لشعوب تعلّمت أن تدفع ثمن حريتها غاليًا… ولكن تستحقه.
5. خلاصات في فقه القيادة والتجربة: محمد مرسي بين القيم والممارسة
عند الوقوف على تجربة الدكتور محمد مرسي، لا بد من تجاوز مجرد التوصيف السياسي لمسار حكمه، والتأمل في المنظور الأعمق: فقه القيادة الإسلامية في زمن الانتقال والاضطراب. لقد كانت فترة رئاسته القصيرة مسرحًا لاختبار نادر لعلاقة الدعوة بالسياسة، والمبدأ بالحكم، والثبات بالتدبير.
1. القيادة من منطلق القيم لا الغلبة
لم يكن الدكتور مرسي قائدًا نفعيًا يسعى للبقاء في السلطة بأي ثمن، بل كان مؤمنًا بأن القيادة وظيفة أخلاقية قبل أن تكون سلطة تنفيذية. ولذلك:
• رفض القتل في الشوارع، رغم ضغوط الأجهزة والأحداث.
• رفض فض اعتصامات المعارضة بالقوة، رغم قدرته الدستورية على ذلك.
• قدم نموذجًا لرئيس يَستدعي النصوص الشرعية في خطاباته، ويتحدث عن حساب الآخرة كما عن حسابات الدولة.
وهذا ما جعله يبدو “ضعيفًا” في نظر بعض خصومه، لكنه في ميزان الأخلاق السياسية الإسلامية كان قائدًا يمارس فقه الإنصاف والإحسان لا فقه البطش والانتقام.
2. مرسي والمشروع الإسلامي: بين الرؤية والواقع
كان مرسي جزءًا من مدرسة الإخوان المسلمين، لكنه مثّل في رئاسته وجهًا أكثر استقلالًا وتأصيلًا سياسيًا. فقد حرص على:
• الدعوة لتطوير الفكر السياسي الإسلامي على أساس المرجعية المقاصدية لا الحزبية التنظيمية.
• دعم المؤسسات المنتخبة (الدستور، البرلمان، الشورى) كمرتكز للشرعية، لا مرجعية الجماعة وحدها.
• إعطاء إشارات مستمرة بأن الحكم هو مرحلة لخدمة الأمة لا لتمكين فئة، بل دعا لائتلافات واسعة تتجاوز الإسلاميين.
ومع ذلك، فقد واجه معضلات عدة: غياب الخبرة المؤسسية، بطء الجهاز الإداري، حصار إعلامي دولي، وتربص داخلي حال دون تنفيذ كثير من الرؤى.
3. أين نجح؟ وأين تعثر؟
النجاحات:
• ترسيخ مدنية الحكم رغم الخلفية الإسلامية.
• مواقف خارجية مستقلة، خاصة تجاه العدوان على غزة، ومؤتمر عدم الانحياز، ورفض التدخل في سوريا وفق الإملاءات.
• ثباته على موقفه رغم عزله، وتقديمه مثالًا للقيادة المؤمنة.
التعثرات:
• ضعف الإدارة المؤسسية وعدم إنجاز إصلاحات عاجلة في ملفات الاقتصاد والأمن.
• الاعتماد على بعض القيادات ذات الأداء الضعيف.
• عدم القدرة على تفكيك الدولة العميقة أو تحييدها.
لكن من الإنصاف القول إن حجم التآمر عليه، وحدّة الاصطفاف الإقليمي والدولي، جعلت من الرئاسة معركة وجود لا إدارة يومية.
4. مكانته بين الرموز والمفكرين الإسلاميين
رغم أن مرسي لم يكن يُعرف قبل 2012 كمفكر كبير، إلا أن تجربته في الحكم ومواقفه اللاحقة، جعلته في مصاف الرموز الإسلامية السياسية المعاصرة، إلى جانب:
• نجم الدين أربكان في تركيا: في التأسيس للمشروع الإسلامي السياسي المدني.
• عبد القادر عودة وسيد قطب: في الربط بين الشريعة والسياسة والدستور.
• راشد الغنوشي: في التفكير الاستراتيجي والفقه الدستوري.
لكن مرسي انفرد بأنه الرئيس المنتخب الوحيد الذي مارس الحكم فعليًا ثم دفع حياته ثمنًا لثباته على الشرعية، ما جعله نموذجًا مركّبًا: قائد سياسي، وشهيد مبدئي، وإنسان بسيط عاش ومات لأمته.
6. خاتمة وتوصيات: محمد مرسي… سيرة لم تكتمل، ورسالة لم تُطفأ
لم يكن الدكتور محمد مرسي مجرد رئيس حكم عامًا واحدًا، بل كان اختصارًا لتجربة أمةٍ بأكملها وهي تحاول العبور من زمن الاستبداد إلى زمن الحرية، من التبعية إلى السيادة، من الجدران المغلقة إلى أفق المشاركة الشعبية.
لقد وُئدت تجربته مبكرًا، لكن آثارها لم تُمحَ، وصوته لا يزال يتردد في ضمير الشعوب الباحثة عن الخلاص. لقد غادر الرجل الحياة، لكنه دخل التاريخ من أوسع أبوابه، لا كقائدٍ انتصر على خصومه، بل كقائدٍ صمد ولم يتنازل، حتى وهو في قفص الاتهام، يُحاكم أمام قضاة الانقلاب في مشهد عبثي كتب فيه صفحات من البطولة المدنية المؤمنة.
وفي ضوء ما سبق، تقدم الورقة التوصيات التالية:
أ. في حق الدكتور مرسي:
1. إطلاق مشروع توثيقي شامل لتجربته، يشمل شهادات زملائه وخصومه، وتحليل خطبه، وقراءة قراراته السياسية من منظور فقهي – استراتيجي.
2. تخليد ذكراه في الوعي العربي والإسلامي، لا بوصفه رئيسًا مخلوعًا، بل رمزًا للشرعية والقيادة الأخلاقية.
3. اعتبار قضيته قضية حرية وكرامة شعب، لا قضية فردية، وربطها بالمسار العام للتحول الديمقراطي في العالم العربي.
ب. للحركات الإسلامية:
1. تحليل تجربة مرسي كأداة للمراجعة لا للمحاكمة، وقراءة إخفاقاتها وسياقاتها بدلًا من تسطيحها أو تبريرها.
2. التأكيد على أهمية العمل المؤسسي والعقل الجماعي، وتجنب الوقوع في أسر الشخصنة أو العفوية السياسية.
3. الموازنة بين الثبات على المبادئ والمرونة في الأداء، في ضوء المتغيرات الدولية والإقليمية.
ج. للنخب والمجتمعات:
1. رفض السردية الانقلابية التي صوّرت مرسي كضعيف أو فاشل، وتفنيدها بالدليل والعقل والتحليل.
2. التمسك بحق الشعوب في اختيار حكامها، ورفض أي وصاية داخلية أو خارجية تُفرض على الإرادة الوطنية.
3. استلهام روح مرسي في التواضع والنزاهة والإيمان بالمشروع لا بالمنصب، بوصفه نموذجًا مختلفًا عن سلوكيات الاستبداد والفساد.
ختامًا
لقد دفع محمد مرسي حياته ثمنًا لصموده على درب الحرية… ولأن الشعوب الحية لا تنسى رموزها، فمن الوفاء للأمة لا للرجل فقط، أن نستدعي تجربته ونحن نعيد بناء أدواتنا، ونرسم خرائط المستقبل في زمن تتجدد فيه معارك التحرر والكرامة.