
مع انقشاع غبار المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية الأخيرة، تتجه الأنظار إلى ما هو أبعد من نتائج الحرب وموازين القوة العسكرية. فالمعركة التي خيضت بالصواريخ والطائرات كانت، في جوهرها، تمهيدًا لمشهد سياسي أشمل، قد يُغيِّر وجه الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
يبدو أن المنطقة تدخل مرحلة إعادة تشكيل شاملة، لا تشبه مشاريع “الربيع العربي” ولا تُكرّر مشهد “سايكس بيكو”، بل تمزج بين الاقتصاد، والتطبيع، وتحييد الفاعلين التقليديين. فما الذي يجري خلف الكواليس؟ وماذا ينتظرنا؟
ما بعد الحرب: الهدوء لا يعني النهاية
المواجهة الأخيرة كشفت حجم التآكل الذي أصاب “محور المقاومة”، خاصة في ظل الارتباك الإيراني وغياب ردود فعل نوعية من حلفائه. وبعيدًا عن إعلان المنتصر والخاسر، فإن الأنظار تتجه الآن نحو المرحلة التالية، والتي يُراد لها أن تكون “مرحلة إعادة التشكيل”، لا مجرد تهدئة مؤقتة.
السيناريو الجاري اليوم يُعيد إلى الأذهان مشهد نهاية حرب 2006، لكنه أخطر وأعمق:
• وقف إطلاق نار في غزة.
• تهيئة نفسية وسياسية لتوسيع دائرة التطبيع العربي – الإسرائيلي.
• إعادة تنشيط مشروع “الممر الكبير” من مومباي إلى أوروبا عبر حيفا.
تراجع إيران… وصعود الأجندة الأميركية
بوضوح، تمر إيران بأضعف لحظاتها منذ سنوات، داخليًّا وخارجيًّا.
• حلفاؤها في المنطقة يُعانون من الإنهاك العسكري والسياسي.
• الاقتصاد الإيراني في تراجع حاد.
• المظاهرات الداخلية وموجات القمع زادت من عزلتها.
وهذا ما فتح الباب واسعًا أمام الولايات المتحدة وإسرائيل لتحريك مشروع الشرق الأوسط الجديد، هذه المرة من بوابة “السلام الاقتصادي”، بدلًا من “التحالفات الأمنية” فقط.
الممر الاقتصادي: خريطة سياسية متنكرة
حين أعلنت قمة العشرين في 2023 مشروع “الممر الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي”، لم يكن المشروع مجرد خطوط شحن أو استثمار… بل خارطة سياسية جديدة تهدف إلى:
• تعزيز النفوذ الإسرائيلي عبر ربطها بشبكة تجارية عالمية.
• تقليص دور تركيا وإيران ومصر خارج المعادلة.
• إقصاء الصين وروسيا من النفاذ إلى الشرق الأوسط.
الخطير في المشروع أنه يُسوَّق كحل تنموي، بينما جوهره هو: توسيع النفوذ الصهيوني وإعادة هيكلة المنطقة لصالح واشنطن وتل أبيب.
التطبيع من جديد… ولكن تحت غطاء “التحوّل”
خلافًا للمرحلة الأولى من التطبيع، التي جاءت ضمن “اتفاقيات أبراهام”، فإن المرحلة الجديدة ستكون:
• أكثر عمقًا: تشمل تعاونًا في الذكاء الاصطناعي، الدفاع السيبراني، والطاقة المتجددة.
• أقل ضجيجًا: لن تُعلَن دفعة واحدة، بل عبر خطوات متدرجة.
• أوسع جغرافيًّا: تمتد من الخليج إلى شمال أفريقيا.
• وأكثر قبولًا شعبيًّا: عبر حملات إعلامية تُظهر إسرائيل كـ”شريك سلام لا عدو”.
🔹 ماذا عن غزة؟ وماذا عن فلسطين؟
الواقع أن غزة، رغم صمودها البطولي، ربما تواجه سيناريو “التصفية الهادئة”، لا الحسم العسكري.
• الحديث عن إعادة الإعمار أصبح مشروطًا بالتهدئة طويلة الأمد.
• الفصائل الفلسطينية تُواجه ضغوطًا إقليمية ودولية لتغيير خطابها.
• قضية القدس واللاجئين تُدفع تدريجيًا إلى الهامش.
وهكذا يراد للقضية الفلسطينية أن تتحول من قضية تحرر وطني إلى أزمة إنسانية تُدار بالتمويل لا بالكرامة.
تحالفات جديدة… وخصومات مصطنعة
في الفترة القادمة، ستظهر خارطة جديدة للعلاقات في المنطقة:
• تقارب سعودي – إسرائيلي بوساطة أميركية.
• عودة العلاقات الخليجية – السورية، مع تحجيم النفوذ الإيراني.
• تطبيع سري أو علني بين دول عربية وإسرائيل بغطاء اقتصادي.
• إعادة احتواء تركيا عبر ملف اللاجئين وغاز المتوسط.
• تصفية الحركات الإسلامية من المشهد السياسي والإعلامي.
والأخطر هو: خلق خصومات إعلامية مُفتعلة لتبرير التحالفات الجديدة.
وماذا عن تركيا وباكستان؟
تركيا تقف أمام لحظة فاصلة:
هل تنحاز إلى الرؤية الغربية الجديدة التي تُقصيها عن الملف الفلسطيني، أم تبني مشروعًا مستقلًا بالتعاون مع قوى إقليمية أخرى؟
ضغوط الاقتصاد والعلاقات المعقّدة مع الناتو ستُستخدم كورقة ابتزاز.
أما باكستان، فمرشحة لمزيد من التحييد، خاصة مع أزماتها السياسية والاقتصادية، وسط محاولات لإشغالها داخليًّا وقطع أي دور لها في قضايا كبرى كفلسطين أو أفغانستان.
المطلوب الآن: رؤية استراتيجية للمواجهة
في ظل هذا الزحف الناعم، لا بد من تحرك عاجل:
1. إدراك أن إعادة تشكيل المنطقة تتم الآن على نار هادئة، ولكن بخطورة عالية.
2. بناء جبهة فكرية وإعلامية تُواجه “التطبيع العقلي” قبل السياسي.
3. إعادة تفعيل فكرة الأمة الواحدة، ورفض التقسيم الهويّاتي بين الشعوب.
4. تشجيع التحالفات الاستراتيجية بين تركيا، ماليزيا، باكستان، ودول عربية مقاومة.
5. إعادة بناء المشروع الإسلامي النهضوي بعيدًا عن التبعية، ودون انتظار من يسمح أو يمنع.
ختامًا:
ما نعيشه اليوم ليس سلامًا ولا حربًا… بل لحظة هندسة كبرى لشرق أوسط جديد، قد يُنهي كل ما عرفناه من توازنات ومعادلات.
• غزة تُخنق، ولكن بصمت.
• إيران تُحاصر، ولكن تدريجيًّا.
• و”القضية” تتحوّل إلى “ملف إنساني” في درج المساعدات الدولية.
فهل نستيقظ قبل أن يُكتب التاريخ من جديد دون أن نكون جزءًا منه؟
أم نكتفي بالفرجة، بينما تُدار المعركة الكبرى ضد وعينا ومصيرنا؟