مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : ورقه من مذكراتي : حين يعترف الجلاد في بكين.. ويصمت في مصر وفلسطين

حين يعترف الجلاد في بكين.. ويصمت في مصر وفلسطين
قلبي يخفق في هذا اليوم من كل عام…(٢٦ يوليو) فهذا اليوم ليس ككل الأيام، بل يحمل وجعًا خاصًا اسمه: اليوم العالمي لمناهضة التعذيب. إنه اليوم الذي تتعرّى فيه الدول أمام مرايا ضمائرها، وتواجه أبشع ما اقترفه الإنسان بحق الإنسان.

منذ نعومة أظافري، شغلتني هذه القضية حدّ الوجع، وكنت شاهدًا عليها منذ اعتقالي في بدايات الثمانينات، حين اصطدمت لأول مرة بوجه السلطة القبيح، وبجدران لا تسكنها العدالة، بل يُقيم فيها الرعب. ما رأيته وسمعته ، ظل محفورًا في قلبي وعقلي. ولأنني صحفي قبل أن أكون سياسيًا، بدأت—وأنا نائب رئيس تحرير جريدة الوفد—حملة صحفية عام ١٩٨٧ تحت عنوان : “الداخل مفقود… والخارج مولود”. لم تكن مجرد عناوين صحف، بل كانت صرخات أرواحٍ أُزهقت تحت سياط التعذيب المنهجي في سجوننا.


ثم شاءت الأقدار، وبعد أكثر من عقد، وفي أعقاب مشاركتي في أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ مصر، أن أتحول من شاهد على جرائم التعذيب، في الثمانينات إلى ضحية له.


من سجن مزرعة طره، كتبت مقالًا بعنوان: “ماذا لو مات مبارك؟”، نُشر حينها على صفحة كاملة بجريدة “الغد”.وفي اليوم التالي مباشرة، في ١٧ مايو 2007، تم اقتيادي إلى خارج السجن لمدة عشرين دقيقة فقط، وعدت بعدها بـ ١١ إصابة موثقة بالصور والتقارير، أبرزها تقرير الطب الشرعي الموقع من الدكتور سباعي أحمد السباعي. رئيس مصلحه الطب الشرعي.

لكن النيابة العامة — وعلى عادة القضاء في مصر — تجاهلت كل شيء،
بل أهدرت التقرير والصور والبلاغات الحقوقية. لم يُفتح تحقيق واحد، ولم يُسأل أحد، رغم مرور أكثر من ١٨ عامًا. بل المُدهش — والموجع — أن من قاد هذه الجريمة تم ترقيته لاحقًا إلى مدير أمن محافظة المنيا، بينما أصبح اللواء عماد شحاتة، الذي أشرف على المهمة، محافظًا لسوهاج.


واليوم ونحن في رحاب الذكري ال٢٨ لتوقيع اتفاقية مناهضة التعذيب وفي لحظة عجيبة من مفارقات التاريخ…
تخرج علينا الصين — بكل ما تمثله من انغلاق وقمع سياسي — باعتراف رسمي غير مسبوق. النيابة العامة الشعبية العليا في بكين أعلنت أنها ستُنشئ إدارة تحقيق خاصة لملاحقة عناصر القضاء والأمن الذين تورطوا في احتجازات غير قانونية، وتعذيب، ومداهمات تعسفية، وانتزاع اعترافات بالقوة.


هذا ليس خطاب علاقات عامة، بل هو اعتراف مكتوب بأن النظام القضائي الصيني مارس التعذيب، وبأن بعض القضايا — التي سُمح للرأي العام أن يعرفها — كانت نماذج فاضحة. منها مثلًا: محاكمة عدد من ضباط الشرطة في أبريل الماضي بتهمة قتل أحد المحتجزين تحت التعذيب، وسجن آخرين في 2019 لتجويعهم، وحرمانه من النوم حتى فارق الحياة.
وكان تقرير الأمم المتحدة أشار إلى ممارسات ممنهجة في الصين، وعلى رأسها:
استخدام “كرسي النمر” الذي يُقيَّد فيه المعتقل لساعات مؤلمة.
الصدمات الكهربائية المتكررة.
الحرمان القاسي من النوم.
الحبس الانفرادي الطويل.
التنكيل النفسي بالمعارضين.
هذه الممارسات استهدفت على وجه الخصوص الأقليات العرقية مثل الأويغور والتبتيين، فضلًا عن النشطاء والمحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
أما مصر، فما زالت تفضل الصمت…عن جرائم تعذيب ممنهج ترتكبها في حق عشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين
صمت بحجم الجريمة. لم تعترف النيابة، ولم يتحرك القضاء، ولم يُشكَّل أي جهاز للمحاسبة، وكأن أرواح الضحايا الذين يموتون يوميا
لا تساوي شيئًا.

في هذا اليوم عام٢٠٢٥.الذي اعترفت فيه الصين ورفضت القاهرة للان.. النُطق بالحقيقة…أشارك بكل فخر في ورشة تنظمها المؤسسة الدولية للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين “تضامن”، بالشراكة مع المجلس العربي، في مدينة إسطنبول، تحت عنوان:

“الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال: مأساة التعذيب وغياب المساءلة الدولية”.


ورشة تشرفني المشاركة فيها إلى جانب الرئيس التونسي الأسبق د. المنصف المرزوقي، ونخبة من الحقوقيين وأسرى محررين، في محاولة لإعادة تسليط الضوء على جريمة مستمرة منذ عقود.


الاحتلال الصهيوني لا يُمارس التعذيب كاستثناء، بل يعتمده كأداة إدارة وتصفية وترويض، وأحيانًا كوسيلة إبادة معنوية وجسدية.
في سجون الاحتلال، يُسجن الطفل والشيخ، المرأة والمقاتل، القلم والبندقية. في كل زنزانة حكاية قهر، وفي كل غرفة تحقيق سيرة صمود.
تحية إلى كل الأسرى الفلسطينيين…
إلى الصديق مروان البرغوثي الذي كتب الحرية من عزلته، ، وسائر الأبطال الذين صنعوا من القيود أعمدة كرامة.
إلى الأطفال الذين وُلدوا بين القضبان، والنساء اللواتي أُهينت إنسانيتهن، والرجال الذين يموتون كل يوم ولا ينكسرون.
وتحية لأحرار مصر خلف الأسوار…
لمن لا يزالون يدفعون ثمن كلمة، أو قصيدة، أو حلم بدولة عادلة. إلى
الابن علاء عبد الفتاح
والصديق عصام سلطان
والاخ العزيز محمد البلتاجي
الي رئيس البرلمان الدكتور سعد الكتاتني ورفاقه من نواب البرلمان المعتقلين مع سائر الشرفاء،
الذين يكتبون الفصل النقي من حكاية هذا الوطن.
أيها القضاة…في مصر
الي سدنت العدالة الغائبة
سبقتنا الصين، واعترفت بجريمتها. أما أنتم، فقد حان وقت القول:
كفى صمتًا…
كفى تواطؤًا…
كفى طمسًا للحقائق.
افتحوا دفاتر جريمة الجرائم،
اقرؤوا سطور العار، التي سيكتبها التاريخ
وابدأوا من أبسط البدايات:
الاعتراف بأن في مصر تعذيبًا…
وأن من يستحق المحاكمة ليس الضحية، بل الجلاد!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى