
بعد تصريح المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي جاء فيه: “ليس لدينا معلومات دقيقة تفيد أنّ إيران لا تسعى لامتلاك أسلحة نووية، ولن تفعل ذلك لسنوات”، قامت الوكالة الدولية يوم 1 حزيران/ يونيو من هذا الشهر، بضغط من واشنطن، وقبل استئناف المفاوضات النووية التي كان من المقرّر عقدها مع الجانب الأميركي في عُمان، بإصدار تقرير يُحذّر من تزايد حجم اليورانيوم المخصّب في حوزة النظام الإيراني، فضلاً عن عدم “تعاون” طهران مع المفتشين الدوليين! أشارت الوكالة الدوليّة أيضاً إلى أنّه يتعذّر عليها معرفة ما إذا كان البرنامج النووي الإيراني سلمياً وحصرياً، وفق بنود الاتفاق النوويّ الموقع عام 2015.
التقرير اتهم إيران بعدم احترام تعهّداتها لجهة كمية التخصيب النووي، مشيراً إلى أنّه تراكم لدى إيران 604 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، بزيادة 130 كلغ عن التقرير السابق للوكالة في شهر شباط/ فبراير الماضي.
فيما غروسي يوم 18 حزيران/ يونيو الفائت، وقبل يومين من العدوان الأميركي على إيران، يؤكد في تصريح لشبكة “سي أن أن” الأميركية أنه لا يوجد دليل على وجود جهد ممنهج لتطوير سلاح نووي إيراني، ويقول في تصريح آخر لقناة France 24 “إنّ وجود برنامج تسلّح نووي ناشط لم يتمّ التأكد منه”.
إنّ اندفاع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في إصدار تقريرها المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، حصل نتيجة ضغوط واشنطن على دول عديدة أعضاء في الوكالة، وتجاوب غروسي الأرجنتيني مع المطلب الأميركيّ، الطامح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة، بعد انتهاء ولاية الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريس في 31 كانون الأول/ دسيمبر 2026، حيث الأمين العام القادم سيكون من حصة أميركا اللاتينيّة.
إيران اتّهمت غروسي بنقل وثائق ومعلومات تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني الى “إسرائيل”، ما جعل عدوان ترامب ـ نتنياهو على إيران يتلطى بتقرير غير شفاف للوكالة الدوليّة يبرر عدوانهما.
في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2004، تمّ الاتفاق بين إيران والثلاثي الأوروبي: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا على وقف مؤقت لتخصيب اليورانيوم، وفي اليوم نفسه نُشر تقرير للأمم المتحدة، يفيد أن ليس هناك من برهان على وجود برنامج عسكري نووي إيراني. بعد أسبوع واحد في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر أعلنت إيران عن توقف طوعيّ لبرنامج تخصيب اليورانيوم، بغية التفاوض مع الثلاثي الأوروبيّ الذي لوّح بالحوافز السياسية والاقتصادية مقابل توقف دائم للتخصيب.
واشنطن التي عزمت على إحالة الملف النووي الإيراني بأيّ شكل إلى مجلس الأمن، لم تكن راضية عن أداء مدير الوكالة الدوليّة في ذلك الوقت محمد البرادعي، و”تهاونه” في هذا الشأن. ما دفع بوزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس في شهر حزيران/ يونيو 2005، أن توجّه كلامها للبرادعي قائلة: “إنّ على البرادعي أن يتشدّد في موقفه من إيران، وإلا سيفشل بأن يكون مرشحاً لولاية ثالثة على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية”!
أمام الضغوط الأميركية “الإسرائيلية”، أصدرت الوكالة الدولية يوم 11 آب/ اغسطس قراراً يدعو إيران إلى تعليق تخصيب اليورانبوم، وطلبت من البرادعي وضع تقرير مفصّل عن البرنامج النووي الإيراني قبل 3 أيلول/ سبتمبر 2005.
في 31 كانون الثاني/ يناير 2006، صدر عن الوكالة الدولية تقرير جاء فيه: “أنّ إيران قامت بتسهيل عمليات التفتيش للوكالة الدولية”. رغم ذلك، وبعد ضغوط أميركيّة وأوروبية مكثفة، تمّ يوم 4 شباط/ فبراير 2006 التصويت داخل الوكالة على إحالة الملف النوويّ الإيرانيّ إلى مجلس الأمن الدولي، لتبدأ في ما بعد سلسلة العقوبات الأممية على إيران، مع العلم أنه بعد إحالة الملف النووي الى مجلس الأمن، كشف النقاب يوم 27 آذار/ مارس عن عزم مسؤولين أميركيين توجيه ضربة لإيران.
بعد عشرين عاماً، كشّرت الولايات المتحدة و”إسرائيل”، مجدّداً عن أنيابهما، لجهة ما تحضّره لإيران، إذ كان الملف النووي الإيراني جزءاً من أجزاء ملفات حساسة أخرى، مستهدفة من قبل واشنطن وتل أبيب. واشنطن التي لا تقبل مطلقاً أن يكون لإيران برنامج نوويّ سلميّ، تريد أن تجرّدها من كامل حقوقها التي كفلتها لها قوانين الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إنّ عدوان أميركا و”إسرائيل” على المنشآت النوويّة الذي انتهك القانون الدولي بشكل فاضح، في ظلّ تواطؤ الوكالة الدولية التي تعمّدت مع غروسي الصمت إزاء العدوان، لن يمنع إيران من امتلاك برنامج نووي سلمي كامل، ولن يجعلها ترضخ لبلطجة واشنطن وازدواجيّة معايير غروسي ووكالته الدوليّة مهما كلف الأمر.
الأمة الإيرانية كلها معنيّة اليوم، بما تعرّضت له من عدوان مشين شنته عليها الإمبراطورية المستبدة، ودولة الاحتلال، فيما واشنطن عازمة على استنزاف قدرات إيران العسكرية، والاقتصادية، والمالية، لإرهاقها، وجرّها إلى مفاوضات استسلام تضعها أمام الأمر الواقع.
صمود إيران، وردّها على العدوان “الإسرائيلي”، مزق الصورة المزيّفة لدولة الاحتلال، فالأسابيع المقبلة ستكشف هشاشة المجتمع “الإسرائيلي” في الداخل، وإعداد آلاف اليهود الذي سيغادرون نهائيّاً “أرض الميعاد”!
للمرة الأولى في تاريخ كيانها، يتمّ دكّ “إسرائيل” في عقر دارها، وتلقينها ضربات مؤلمة لم تشهدها من قبل، من شمالها إلى جنوبها، فيما العالم يشاهد مستوطنيها يهرعون إلى جحورهم.
إنّ الصراع مع “إسرائيل” ينتهي بتحرير الأرض، ولن تمحو الحروب هذه الحقيقة وإنْ وقف العالم كله لحماية الكيان العنصري.
العدوان على إيران كشف زيف الغرب المنافق الذي يبدي “حرصه” على السلام والأمن الدوليين، كما كشف حقيقة المتخاذلين في العالمين العربي والإسلامي وصمتهم المريب إزاء العدوان الأميركي “الإسرائيلي”.
إيران اليوم لا تدافع فقط عن حقوقها وسيادتها، بل تدافع أيضاً عن أمن المنطقة كلها، كي لا يسقط الشرق الأوسط بأكمله في قبضة الامبراطورية المارقة ودولة الاحتلال، ويغرق في حروب تقسيميّة عرقيّة وطائفيّة وقوميّة لا نهاية لها.
هدف واشنطن وتل أبيب الدائم، تحريك الملفات كلها ضدّ إيران. اليوم البرنامج النووي، وغداً البرنامج الصاروخي، وبعد غد برنامج الأسلحة البيولوجية والجرثومية، وبعده “نفوذ” طهران في المنطقة، والعمل على حصرها ضمن حدودها الجغرافيّة، وبعده حقوق الإنسان في إيران، ودعم الحركات الانفصاليّة لتقسيم البلاد، ومن ثم إسقاط النظام!
صراع إيران مع الغرب لن يتوقف، طالما هناك نظام متحرّر من القيود، يرفض التبعيّة، والتسلط، والإملاءات، والاستغلال، والخضوع للإمبراطوريّة التي وصفها مرشد ثورتها يوماً بـ “الشيطان الأكبر”، صفة يردّدها الإيرانيون بصوت عالٍ منذ 46 عاماً وحتى اليوم.
إذا ما فتشتم عن أسباب الحروب الدامية التي تندلع في العالم، ستجدون الإمبراطورية حاضرة على الدوام، تحرّض، تؤجّج، تتدخل، تعتدي، غير مبالية بالدول وحقوق الشعوب، ولا وبالمجتمع الدولي، والقوانين الأمميّة.
الإيرانيون متمسكون بحقهم، وكرامتهم الوطنيّة، واعتزازهم الكبير بإنجازات إيران، والدفاع عنها وعن أرضها، وسيادتها. لا عجبَ بعد ذلك، أن يتوحّد كلّ الإيرانيين، إصلاحيين، ومحافظين، ومعارضين، ومستقلين، خلف الدولة، والنظام، والجيش، والحرس الثوريّ، لدحر المعتدين، والدفاع عن الأمة الإيرانية!
العدوان “الإسرائيلي” ـ الأميركي لن يستطيع القضاء على البرنامج النووي الإيراني، ولا على مصانع الصواريخ، ولا على إسقاط النظام، رغم شراسة العدوان وقسوته وهمجيته.
هكذا يحافظ الإيرانيون على وطنهم، ويستميتون في الدفاع عن ترابه، بإيمان كبير، وصبر عجيب، ومن لا يعرف الإيرانيين عن كثب، فليدرس بالعمق تاريخهم حتى يدرك مدى صلابتهم، وقوة إرادتهم، واعتزازهم بإنجازات وطنهم العلميّة، وعنفوانهم، وقدرتهم على الصمود، والتحدّي وتحقيق النصر…