
كثيرة هي الحركات الشعبية التي وقعت في العالم في العصر الحديث، غالبية تلك الحركات وقفت وقفة جادة أمام انتهاكات ومظالم، لذلك رغب قادة تلك الحركات في تغيير الأوضاع، بعد أن سئموا من إصلاحها، أو أعمال الترقيع والتوفيق والتلفيق التي ما فتئت النظم السياسية السابقة -دون جدوى- تركض للترويج لها.
وكما حدثت إيجابيات كثيرة لتلك الحركات، أيا كان مسماها انتفاضات أو ثورات أو مجرد هوجات، إلا أنه وقع الكثير منها في انتكاسات نالت عادة من حقوق الإنسان. فمن من الناس ينسى ما وقعت فيه الثورتين الأمريكية والفرنسية من نواكب وخطب،
ومن من الناس لم تسعفه الذاكرة لمشهد الصين وما جري بها مطلع عهد ماو تسى تونج، أو من ينسى الثورة الحمراء في روسيا عهد لينين وستالين، أو من لا يتذكر ما جرى في الثورة الإيرانية -عقب سقوط الشاه محمد رضا بهلوي- في مطلع عهد الخوميني….إلخ.
30يونيو2013 في مصر لم تكن إلا واحدة من تلك الحركات الشعبية، التي شهدت نماذج متميزة من الأداء بعضها لا زال قائما، لكنها ما لبثت أن وقعت هي الأخرى في أخطاء جسيمة.
عودة القط والفأر
وكما سبق القول، كثيرة هي الإيجابيات التي يتم حصدها في مطلع الهبات والحركات الشعبية، لكن ما من شك أنه بعد فترة من الفترات يستمرأ القادة الجدد الواقع، وتبدأ العودة لذات الخصال أو جزء منها.
في مصر كان الهدف هو صعود أو إصعاد الإخوان المسلمين الذين يبدو أنهم تسرعوا في النيل من الحكم، بالمغالبات وإقصاء المدنيين عن السلطة، رغم كونهم وثبوا إليها كما وثب أخرون في أوروبا بطرق شرعية لا غبار عليها، وهو ما شهدته واحدة من أنزه الانتخابات البرلمانية والرئاسية في التاريخ الحديث للبلاد عامي 2011 و2012 على الترتيب،
ناهيك عن وضع دستور جديد لم تشأ السلطة الجديدة بعد 30يونيو2013 أن تجد غيره للبناء عليه، فأجرت ترميما له، بعد حذف عبارات تلغي محاولات التديين والثيوقراطية التي شابت تلك الفترة القصيرة جدا من عمر البلاد.
وسط كل تلك الانتكاسات قبل 30يونيو كانت الطامة الكبرى بإستجارة الإخوان بالخارج الأمريكي لحظة السقوط، هذا الخارج هو ذاته من بادر باستدعاء هؤلاء أول مرة في 2011، لكن خابت الظنون، وقف الناس بالمرصاد، وكأنهم كانوا على موعد من إجترار كراهية محمودة لكل ما هو خارجيعثماني أو إنجليزي أو فرنسي أو أمريكي أو صهيوني،
وكل هؤلاء كانوا يسعون للنيل من سيادة المصريين طوال التاريخ الحدث. كره الناس كل هؤلاء، وفضلوا أن يستجيبوا للجيش للخلاص من الجاسمين الجدد على صدورهم، وكأنهم هم أيضا يعيدوا -أو أن شئت القول يستجيبوا لمن يريد- للعبة القط والفأر التي بدأت منذ 1928 أن تعود!!
حصاد متميز
ما من شك أن 30 يونيو قامت بأدوار إيجابية لا زال بعضها ماثلا في الأذهان، فالجنوح إلى حياة اجتماعية زاهية كان عبر ولوج برامج كتكافل وكرامة وغيرها وغيرها من المشروعات التي هدف منها النظام الجديد بالوثوب إلى ساحات أكثر رحابة. شجع النظام الجديد على الأداء المتميز استنهاض الخارج الخليجي -الكاره للإخوان والخاشي من سقوط الدولة- نحو حزمة إنقاذ،
أفضت إلى نجاحات كثيرة. هذه النجاحات لم تكن اقتصادية فحسب، بل كانت أيضا سياسية من خلال العمل على قبول الخارج لما حدث في 30 يونيو باعتباره أمر واقع، بعد أن كان الكثيرين منهم يرونه إنقلابا متكامل الإركان. في أوروبا والولايات المتحدة وأفريقيا، استعادت البلاد مكانتها الخارجية، وبدأ الناس على قناعة بأن لا مناص من التعامل مع النظام الجديد القائم على حكم واحدة من أهم بلاد المنطقة، أن لم تكن أهمها قاطبة.
لم ينس النظام الجديد أن يعدل الدستور، فيلغي مثالبه ليس الدينية فقط بل والسياسية، بأن يأت بإيجابيات كثيرة، كتلك التي تفضي لنسيان الأحقاد مع الماضي عبر المطالبة بسن قانون للعدالة الانتقالية على غرار جنوب أفريقيا وبلدان لاتينية، وقانون بناء وترميم الكنائس، وقانون لمحاربة التمييز…إلخ.
واقتصاديا كان مهما أن تحسن السلطة من شبكة الطرق لدعم الاستثمارات، وأن ترفع ذاتها على السلم الدولى لسلامة وجودة الطرق عشرات الخطوات، وأن تقيم المشاريع القومية التي تجلب للاقتصاد الكثير من الريوع، وأن تحقق وثبه في الصادرات،
وأن تعيد ثقة المقيمين بالخارج في الاقتصاد فتزيد من التحويلات بعد أن كان يتم التصرف فيها في الخارج بفعل ضلالات عديدة، وأن تستعيد السياحة عافيتها حتى بعد الانتكاسة التي شهدتها عام 2015 بسقوط الطائرة الروسية في سيناء بفعل عمل إرهابي، وقد ترافق كل ما سبق مع مواجهة كبيرة وناجحة مع تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية سيناء، والذي حصد أرواح العشرات من الأبرياء.
نجاحات سياسية داخلية تنحسر
في مقابل كل ما سبق أنحسر النجاح تدريجيا، على عديد المستويات داخليا وخارجيا. ففي الداخل تقلص هامش الحريات حتى بوجود الدستور ومواده التي عدل بعضها لصالح هذا التقليص. فهذا هو النظام الانتخابي الذي أتي ببرلمان تقريبا معين. هذا البرلمان شهد الجميع أنه خانع وطيع للسلطة التنفيذية، بحجة وجود كوتات اجتماعية، وكأن البرلمان أصبح مؤسسة اجتماعية لا سياسية. البرلمان الذي استجاب لكل ما يطلب منه حكوميا، أصبح كغيره من الوظائف في الدولة أداة لتوريث المقاعد النيابية. هذا التوريث أثبتت الأحداث أن مبارك هو الشخص الوحيد الذي فشل فيه!!
الدستور جاء أيضا بدور معتبر لرأس السلطة التنفيذية في تعيين رؤساء الهيئات والجهات القضائية، وجاء بدور مدني للقضاء العسكري تحت ظروف معينة، وجمدت عديد القوانين التى حث عليها الدستور كتأسيس مفوضية منع التمييز، وأصبحت المحليات عمليا بلا مجالس منذ2011، كما منع صدور قانون العدالة الانتقالية بشكل تُرك فيه المجتمع ضحية الضغائن والأحقاد بين الناسبسبب جوقة إعلامية رثة، كما أُهملت دعوة الدستور لمنع ندب القضاة لجهات غير قضائية…إلخ.
فوق ذلك تم تأميم الإعلام برئاسة “المتحدة للإعلام” لعديد القنوات والمواقع الإلكترونية، وأُممت الفتوى بدور كهم لوزارة الأوقاف فيها، وهدمت الأضرحة والمقابر التاريخية للشخصيات العامة والسياسية منذ عهد المماليك وأسرة محمد على ومحمود سامي البارودي وعديد الكتاب والأدباء ورجال الفكر والدين، بحجة التخطيط العمراني، حتى أن مشروع “مقابر الخالدين” التي قيل لإسكات انتقادات الهدم أصبحت نسيا منسيا. الأحزاب السياسية التي تحررت من قيود التأسيس قبل 2011 أصبحت ضعيفة،
لا سيما بعد أن علقت بحكم الأمر الواقع مادة في الدستور نصت على عدم وجود حزب ترعاه السلطة التنفيذية. وسط كل ما سبق بقى الحبس الاحتياطي وغلق المواقع الإلكترونية وحجر الرأي سيفا مسلطا، حتى على القوى المدنية التي قادت 30يونيو ووقفت بالمرصاد للإخوان، والتي أصبحت متهمة بالانضمام لجماعة إرهابية!!. كما أصبحت غالبية مخرجات الحوار الوطني، الذي رأي أنه منصة مهمة للاستماع لوجهات النظر الأخرى وطرح البديل، محدودة التنفيذ، وأحيانا معكوسة.
وضع اقتصادي غير جيد
اقتصاديا انخفضت قيمة العملة المحلية، وتدخل صندوق النقد الدولي في الشأن الداخلي بسبب الحاجة إلى الاقتراض منه، صحيح أنه أجبر من استدعاه على ببيع شركات تملكها جهات سيادية، لكن الأمر لم يكن تشجيعا للقطاع الخاص قدر ما كان تشجيعا للاستثمارات الأجنبية الخليجية، التي صارت أرض مصر مطمعا لها بشكل ملفت للأنظار. وكان غريبا وسط كل ما سبق أن تزداد نسبة الفقر، والفجوة بين الدخول والرواتب بشكل كبير، حتى بموجب الأرقام التي أوردها جهاز الإحصاء المركزي
، حيث ارتفعت معدلات التضخم، وراحت الريوع من العملة الأجنبية ضحية سداد القروض وفوائدها. وكان ملفتا أن يُعلن أكثر من مرة أن تلك التداعيات كانت بسبب ظروف خارجية كجائحة كوفيد والحرب الروسية-الأوكرانية والعدوان على غزة. وبسبب إغفال دراسات الجدوى رسميا، أصبحت البوصلة الاقتصادية بلا أولويات، حيث تم الدخول في مشروعات -رغم أهمية بعضها- مكلفة ومجهدة لكاهل الموازنة (من حيث الحجم والوقت والغرض) كالعلمين والعاصمة الإدارية والمونوريل.
سياسة خارجية فقيرة
وخارجيا، ورغم أنه كان جيدا عودة العلاقات مع تركيا وقطر وإغلاق ملف الإخوان بين الطرفين، ومواجهة مصر بكل صلابة خطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، والعمل على سيطرة الجانب الفلسطيني على معبر صلاح الدين، إلا أن المشكلة في سياسة مصر الخارجية كانت ماثلة في عدة أمور، منها اعتماد مصر على الغاز الصهيوني. صحيح أن هذا الاعتماد كان بغرض الإسالة والتصدير لأسواق أوروبا العطشي بسبب الحرب الروسية الأوكرانية،
لكن التصدير تحول بسبب التوقعات المتزايدة وغير الحقيقية التي أتت بها الحكومة عشية اكتشاف حقل ظهر إلى استغلال الغاز الصهيوني -أو بالأحرى المنهوب صهيونيا من أرض فلسطين- لاحتياجات الداخل المصري لمواجهة الأعباء. المهم أن الكيان الصهيوني راوغ بالمنع تارة والمنح تارة لتوريد الغاز، ما أسفر عن انقطاع الكهرباء لبعض الساعات عن المنازل في صيف أعوام 2022-2024، ناهيك عن أزمة الأسمدة التي تحتاج مصانعها للغاز، ما هدد المحاصيل الزراعية، التي لم تفق بعد لشح المياة نتيجة ترك أثيوبيا لسنوات تعبث بمياة النيل دون رد فعل مصري عنيف وممكن، حتى تم البدء في ملء السد اعتبارا منأغسطس 2020،
ما جعل هذا الرد العنيف مستحيلا. وعربيا، ورغم تحسن العلاقات المصرية مع أغلب البلدان العربية، إلا أنه ظل من غير المفهوم، سكوت مصر عن دعم الصديق الإماراتي للدعم السريع في السودان، ودعم الإمارات لأثيوبيا حتى في لحظة كاد نظام أبي أحمد أن يسقط خلالها بسبب حرب التجراي، وكذلك دعم قوات حفتر بشكل يؤجج الخلاف مع الغرب الليبي ويمنع حل الأزمة الليبية المستعرة على حدود مصر الساعية لحل مشكلة ليبيا والسودان وأزمة المياة.
الذكرى 13 ليونيو 2013
في مقابل كل ذلك لا يرجو المرء إلا أن يهل العام القادم على مصر، وقد تحسنت ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الداخل، واستعادت ريادتها في الداخل، وواجهت الكيان الصهيونيومشروعه بخلق شرق أوسط جديد.