
ورقة من مذكراتي
لستُ أكتب من خلف الزجاج المعتم للتاريخ، بل من ضوء التجربة، ومن حبر السجون والبرلمانات والميادين.
أنا شاهدٌ على الذين جلسوا على العرش ولم يعرفوا كيف ينهضون، وعلى الكراسي التي نَحَتَتْ ملامحها في أرواح أصحابها حتى لم يعودوا يفرقون بين الذات والمقام.
لم أكن شاهدًا على صعود جمال عبد الناصر، لكنني كنت وريثًا لجيله، وأسيرًا في ظل صوته المعلّق على جدران الذاكرة، بين حنينٍ شعبي ومرارة يونيو.
رأيتُ من بعده صعود أنورالسادات واغتياله من مَن حسبهم أنصاره، ثم عشت حسني مبارك بكل ما فيه من غيابٍ حاضر، ومن سلطة بلا صوت، ومن دولةٍ تدير نفسها نيابةً عن زعيم لا يغادر مقعده حتى في الخيال.
لا أسرد ما كُتب في الكتب، بل ما كُتب على جلدي.
رأيت السلطة حين تتحوّل إلى إدمان، والحاكم حين يصبح مريضًا لا يعلم أنه مريض.
فالكرسي، كما أخبرنا الراحل الدكتور أحمد عكاشة، ليس قطعة أثاث… بل حالة عصبية.
هو محفّز قوي للدوبامين، المادة التي يفرزها المخ حين يشعر بالانتصار، فيدمن الحاكم صوت التصفيق، ووهج الإحاطة، وعبارات الولاء.
يفقد تدريجيًا قدرته على التمييز بين رأيه والحقيقة، بين نفسه والدولة، بين منصبه ووجوده.
يُصاب بما سماه علماء النفس السياسي “متلازمة الأنا العليا”:
حالة يرى فيها الحاكم أنه مركز الزمن، وموزّع الأقدار، وأن أي محاولة لنقده هي خيانة، وأي انسحاب له هو نهاية للعالم.
كل من جلست معهم من أصحاب السلطة كانوا يظنون أنهم فوق الزمن، وأن التاريخ منحهم تصريحًا أبديًا بالإقامة في الكرسي.
لكن الكرسي لم يمنح أحدًا أبديته إلا ليبتلعه في النهاية.
من تشاوشيسكو إلى صدام حسين، من القذافي إلى كل من توهّم أن الشوارع لا تمشي إلا إذا قرر.
في النهاية، لا يسقط الحاكم من الكرسي، بل من الذاكرة.
يسقط حين يتحوّل من مسؤولٍ إلى متسلّط، ومن زعيمٍ إلى ظلّ، ومن صورةٍ إلى لافتة ممزقة فوق حائط.
هناك لحظة نفسية دقيقة تحدث في حياة كل ديكتاتور، لحظة يسقط فيها الحاكم من داخل نفسه، دون أن يدرك.
هي لحظة يفقد فيها القدرة على الاستماع، على التراجع، على الرؤية من خارج رأسه.
يُصبح كمن يجلس في غرفة بلا نوافذ، يكلمه الجميع، لكنه لا يسمع إلا رجع صدى صوته.
رأيت هذا التجلّي في وجوهٍ كثيرة، بعضها في السلطة، وبعضها في المعارضة حين اقترب من الكرسي.
فالكرسي لا يميّز، بل يكشف…
ولا يُغيّر فقط من يجلس عليه، بل يفضحنا جميعًا، حكّامًا ومحكومين، حين نسمح له أن يتحوّل إلى وثن.
كل ما كتبته ليس تأريخًا، بل اعترافًا…
اعتراف شاهد، لا يحمل سيفًا، بل ذاكرة…
ولا يطلب حكمًا، بل وعيًا.
وفي نهاية هذه الورقة، أوجّه رسالة لا لجيلٍ واحد، بل لكل مَن غُرّر به بأن الحكم شرف لا يُرد، وامتياز لا يُحاسب.
أقولها لكل حاكمٍ أغمض عينيه عن الحقيقة، وظنّ أن الشعب أصم، وأن الكرسي صُنع على مقاس ظهره.
إلى كل مستبدٍ، أقول:
الكرسي لا يحميك من الناس، بل يحمي الناس منك…
إن حافظت عليه في حدوده، وتركته حين يحين موعد الرحيل.
أما إن تمسّكت به، وجعلته امتدادًا لذاتك، فسيكون أول ما ينقلب عليك، وأول ما تشهد به عليك الأرض.
أنا الشاهد… وربما الناجي،
وربما المنفي من جنة الكراسي التي لم أسعَ إليها،
لكنني كنت قريبًا بما يكفي لأحذر…
ولأقول:
إن الحاكم الذي لا يعرف كيف يقوم عن الكرسي،
سيسقط عنه كما يسقط الحجر من على قمة الجبل،
بلا صوتٍ…