مقالات وآراء

يوسف عبداللطيف يكتب: حين علمتني كلبة الشارع درسًا في الحياة والموت

أحيانًا لا تحتاج الحياة إلى مواقف عظيمة كي توقظ فيك مشاعر دفينة، ولا إلى كوارث كونية كي تهز أعماقك .. أحيانًا، كل ما تحتاجه هو مشهد بسيط، كلب صغير، وطفل يلعب، ونهاية غير متوقعة.

ما جرى تحت بيتي لم يكن مجرد حادثة عابرة، بل لحظة مفصلية، صفعتني بقسوة، أيقظت فيّ أشياء كنت أظنها نائمة، وأعادت ترتيب مفهومي للرحمة، والوفاء، والغدر، وكل ما كنا نظنه محصورًا في البشر فقط.

كان هناك كلبة في الشارع الذي أسكنه، أنثى من سلالة الشوارع، ليست من النوع الذي يلفت النظر أو يُعطى أسماء فخمة، لكنها كانت أمًا، بكل ما تحمله الكلمة من صدق ومعاناة.

وضعت جروًا صغيرًا منذ شهور، وكان ذلك الجرو هو صديق ابني أنس، أصغر أبنائي، الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات ونصف فقط، كانت علاقة غريبة، لا يشوبها منطق، ولا تفهمها كلمات، طفل صغير يتقاسم البراءة مع مخلوق لا يعرف سوى الحب الفطري، واللعب بلا شروط.

الكلب الصغير كان يتصرف معي كما لو كنت صديقاً له، كلما رآني، هزّ ذيله بطريقة أقرب إلى الامتنان منها إلى التحية، لم أكن أطعمه، لم أقدّم له شيئًا سوى ابتسامة عابرة أحيانًا، لكنه كان يعي من أكون.

هو يعرف أنني “أبو أنس”، وهذا كافٍ بالنسبة له، شهور مرت، والجرو يكبر على استحياء، والطفل يبتسم له من قلبه، والعالم كله يبدو أبسط وأجمل من أن يُمس.

حتى جاء صباح هذا اليوم، يوم كُسر فيه شيء داخلي، سمعت خبرًا بسيطًا، هامسًا، لكنه انغرس في صدري كالسهم: الجرو مات.

لم أصدق، رفضت تصديق رواية الحي بأن مجموعة من الكلاب الضالة هاجمته، عضته في رقبته حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

مشهد لا يُصدق. كلب يُقتل على يد أبناء جلدته؟ أين الوفاء الذي طالما نسبناه إليهم؟ أين الحماية التي كنا نفاخر بها ونقارنها بخيانة البشر؟

عدت إلى كاميرات المراقبة الخاصة بمنزلي، وتمنيت ألا أرى ما رأيت .. المشهد كان صادمًا، لم يكن هناك سبب واضح، لم يكن الجرو مذنبًا، لم يكن يمثل تهديدًا.

كانت الوحشية محضة، خالية من التبرير، عضّات متتالية، إصرار على القتل، لا شفقة، لا تردد. الكلاب التي قتلت لم تكن جائعة، لم تكن تدافع عن أرض، لم تكن في خطر. لقد غدرت، كما يغدر بعض البشر.

وفي فجر اليوم، دفعتني الصدمة للنزول إلى الشارع .. لم أكن أعرف ما أبحث عنه .. ربما عن سبب، ربما عن عزاء.

لكنني وجدت شيئًا آخر، شيئًا لم أتوقعه .. الأم، تلك الكلبة، كانت تجلس بجوار المكان الذي مات فيه ابنها، تئن، تهمهم، لا تأكل، لا تتحرك.

كانت حزينة، حزنًا لا يشبه الأسى، بل يشبه الفقد الحقيقي. فقد الأم التي لا تفهم الموت كما نفهمه نحن، لكنها تحسه، تدركه، تحزن عليه.

في تلك اللحظة، شعرت أني صغير .. شعرت أن ما تعلمته من كتب الفلسفة، ومن نشرات الأخبار، ومن الحوارات الطويلة عن الوفاء والخيانة، ليس إلا نظريات جوفاء أمام هذا المشهد.

الكلبة كانت أوفى من الكلاب التي غدرت .. كانت أمًا بحق، أكثر من أمهات تخلين عن أبنائهن باسم الظروف، الكلب الصغير كان أوفى من بشر خذلونا، والغدر لا يعرف فصيلة، بل يعرف فقط قلبًا مريضًا.

الحكاية بسيطة، لكن وقعها في داخلي عميق .. من اليوم، لن أستهين بأي مشهد، ولو بدا تافهًا في عين الآخرين.

لأن الحياة لا تعلّمنا دروسها الكبرى من خلف المكاتب أو عبر المقالات المطوّلة، بل في الشوارع، على الأرصفة، في أعين الحيوانات، في نحيب أم فقدت صغيرها.

صرت أتساءل .. هل نحن فعلًا أكثر تطورًا من الحيوانات؟ إذا كنا نغدر مثل الكلاب، ونقتل دون مبرر، ونتخلى عن صغارنا عند أول أزمة، فأي فرق بقي؟ لا ألوم الكلاب التي قتلت، ولا أبحث لها عن أعذار، لكنني لا أبرّئ البشر الذين يرتكبون أبشع من هذا كل يوم، دون أن يرفّ لهم جفن.

كل ما في الأمر أن كلبًا صغيرًا مات، لكن داخلي، مات شيء أكبر .. سقطت قشرة الغرور البشري التي نغلف بها أنفسنا، وانكشفت الحقيقة .. الأم هي الأم، حتى لو كانت كلبة.

والوفاء ليس حكرًا على نوع دون آخر .. أما الغدر، فهو آفة تتسلل إلى القلوب التي فقدت نورها، سواء سكنت جسد إنسان أو حيوان.

أنا لم أكتب اليوم كمحلل سياسي، ولا كمثقف يتصنّع العمق .. كتبت كإنسان، صفعه مشهد بسيط، فأدرك أن العبرة ليست بما نكتبه، بل بما نشعر به.

وربما، فقط ربما، كانت هذه الكلبة أوفى من كثيرين ممن يسكنون فوق الأرض ويمشون منتصبي القامة، لكن بقلوب ميتة.

رحمك الله يا جَرْوِيّ، وسامح الله من كان سببًا في قتلك، رحمك الله، وإن لم تكن بشرًا، فقد كنت أنقى من كثيرٍ ممن يُحسبون على البشر .. وسلامٌ على أمك، وإن لم تكن من بني الإنسان، فقد كانت أحنَّ من كثيرٍ من الأمهات.

أما نحن، فلنا الله، ولنا الصبر على هذا العالم القاسي، الذي سحق الرحمة، حتى ما عاد يفرّق بين قلب إنسان وقلب كلب، ولا يعرف للوفاء قدرًا، ولا للحياة حرمة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى