
يسلّط الفوز المفاجئ لزهران ممداني في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي لمنصب عمدة مدينة نيويورك، الضوءَ على عدد من القضايا الهامة مثل: إعادة تعريف السياسة، وموقع الأجيال الشابة منها، وما أُطلق عليه “سياسة غزة”، التي تظهر في مساحات التقاطع بين تأييد الفلسطينيين، والقضايا المحلية التي تهم الناخبين.
كتبتُ كثيرًا على صفحات الجزيرة نت عن التأييد العالمي للفلسطينيين بعد الطوفان، وعلاقة جيل زد بهذا التضامن. اتسمت هذه الظاهرة بإيجابيات كثيرة، إلا أنها عانت من عدم القدرة على التأثير في “سياسة المؤسسة” التي تقف وراءها وتتقاطع معها شبكات من المصالح الراسخة. لو فاز ممداني في الانتخابات المقررة (سبتمبر/ أيلول المقبل)، فهذا يعني ردم الفجوة بين الاحتجاج وإقرار السياسات.
استفادت حملة ممداني – المسلم المهاجر ذي الـ 33 ربيعًا وصاحب النزعة الاشتراكية الديمقراطية – من الجهود الشعبية، والحضور القوي على وسائل التواصل الاجتماعي، والتركيز على قضية القدرة على تحمل التكاليف، وهي القضية المعيشية الأساسية لطبقات عديدة في مدينة نيويورك، لتعبئة قاعدة ناخبين أصغر سنًا ومتنوعة وتقدمية، مما أدى إلى زيادة الإقبال لصالحه.
لفوز ممداني آثار على الحزب الديمقراطي، وخاصة فيما يتعلق بقبول السياسات ذات الميول اليسارية، ومواقفه من إسرائيل، التي أثارت جدلًا وقلقًا بين بعض الناخبين اليهود ونخب الأعمال.
يشير السرد العام إلى تحول محتمل في المشهد السياسي لمدينة نيويورك، ويقدم دروسًا متنوعة لموقع اليهود والمسلمين في السياسة الأميركية، بالإضافة إلى سياسات الحزب الديمقراطي.
كان فوزه مدفوعًا بمزيج من الحملات الإستراتيجية، وأجندة سياسية مقنعة، والتواصل الفعال، والتناقض الصارخ مع خصمه الرئيسي، أندرو كومو، عمدة المدينة السابق.
سياسة المعاش أكدت حملة ممداني بلا هوادة على رسالة معالجة أزمة تكلفة المعيشة الساحقة في مدينة نيويورك، التي تعد من أغلى مدن العالم. تضمنت مقترحاته الأساسية تجميد الإيجارات لمليوني مستأجر، وتوفير حافلات مجانية في المدينة، وتوفير رعاية أطفال شاملة، وتمويل هذه المبادرات من خلال زيادة الضرائب على الشركات والأثرياء.
لقد لاقت هذه الرسالة صدى عميقًا لدى المستأجرين من الطبقات: العاملة والمتوسطة، والعليا، في الأحياء: البيضاء، واللاتينية، والآسيوية.
تبنى ممداني، الذي يصف نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي، سياسات تركز على إعادة توزيع الثروة، واقترح تدابير مثل: متاجر البقالة المملوكة للمدينة، واستثمار 70 مليار دولار في الإسكان المدعوم من الدولة.
ويشير فوزه إلى أن الميل إلى اليسار في القضايا الاقتصادية قد لا يضر المرشحين، بل قد يكون إستراتيجية رابحة.
أبرز تحليل لصحيفة (واشنطن بوست) أن ممداني نجح في الحفاظ على التحالف الأصغر والأكثر ليبرالية الذي دعم مايا وايلي، وكاثرين غارسيا في الانتخابات التمهيدية لرئاسة البلدية عام 2021، بل ووسع نطاقه أيضًا.
حقق تقدمًا كبيرًا مع الناخبين غير البيض، وحصل على الدعم في المناطق التي توجد بها أعداد كبيرة من السكان الأميركيين الآسيويين، واكتسب أصواتًا في الأحياء ذات الأغلبية الإسبانية، كما نجح أيضًا في أحياء جنوب بروكلين التي تضم مجتمعات أميركية آسيوية كبيرة.
ساعدته خلفيته كأول رجل مسلم من جنوب آسيا يخدم في كونغرس الولاية أيضًا، في جذب العديد من الناخبين غير المشاركين سابقًا، بمن في ذلك الناخبون المسلمون الشباب وأولياء أمورهم.
يزعم البعض أنه في حين تلعب الأيديولوجيا دورًا، فإن “جودة المرشح ربما تكون أكثر أهمية من أي شيء آخر”. كانت أصالة ممداني وطاقته وقدرته على التواصل مع الناخبين العاديين، من خلال تركيزه على تكلفة المعيشة، هي العوامل الرئيسية لجاذبيته، متجاوزًا الأيديولوجيا البحتة.
هذه الظاهرة بات يُطلق عليها في السياسة المعاصرة: “ما بعد الأيديولوجيا”.
في المناطق التي فاز فيها ممداني بأغلبية الأصوات، ارتفعَ الإقبال بنسبة 20% في المتوسط، وفي المناطق التي حصل فيها على أغلبية ساحقة، قفزت نسبة الإقبال بأكثر من 40%، مقارنة بعام 2021. كان هذا الإقبال قويًا بشكل خاص بين الناخبين الأصغر سنًا (18-29 و30-39 عامًا) الذين صوتوا تاريخيًا بمعدلات أقل في الانتخابات التمهيدية، لكنهم توافدوا على صناديق الاقتراع لصالح ممداني.
نجحت حملة ممداني في حشد “جيش من آلاف المتطوعين”، وقد طرقوا أكثر من 1.5 مليون باب في جميع أنحاء المدينة. كان هذا الأسلوب التقليدي في الحملات الانتخابية، المتمثل في التحدث مع الجيران وإقناعهم، أمرًا بالغ الأهمية، إذ عزز المشاركة الديمقراطية، وأشبع الرغبة في المشاركة.
يُوصف ممداني بأنه “مُتواصل موهوب”، وقدم إعلانات جذابة. كان محتواه قويًا ومسليًا، مما سمح للمؤيدين الأصغر سنًا بالانجذاب إليه. كان شعار حملته المستوحى من سيارات الأجرة الصفراء يهدف أيضًا إلى تمثيل مدينة نيويورك بصريًا.
استخدمت حملة ممداني منصات التواصل الاجتماعي بفاعلية، مما أدى إلى إنتاج إعلانات جذابة على وسائل التواصل الاجتماعي ومحتوى ترفيهي. سمح هذا للمؤيدين الأصغر سنًا بنشر رسالته بسهولة إلى الأجيال الأكبر سنًا، وألهم الآلاف من الشباب للمشاركة بأعداد قياسية.
يمكن أن تكون هذه الإستراتيجية درسًا رئيسيًا للسياسيين في كل مكان حول كيفية الوصول إلى الشباب وإلهامهم، وهي فئة ديمغرافية يُنظر إليها على أنها تشكل تحديًا كبيرًا لانخراطهم في السياسة.
كانت حملة أندرو كومو باهتة، وتتجنب المخاطرة، وتقليدية. حاول كومو، أحد رموز “الحرس القديم” في السياسة في نيويورك، العودةَ إلى الساحة السياسية بعد استقالته من منصب الحاكم وسط اتّهامات بالتحرش الجنسي.
نظر الناخبون، بمن في ذلك العديد ممن سئموا من المؤسسة السياسية، إلى ممداني باعتباره بديلًا جديدًا وحيويًا ومتفائلًا. على الرغم من ميزة جمع التبرعات الكبيرة التي يتمتع بها كومو (25-30 مليون دولار)، معظمها من مليارديرات، اعتمد ممداني على تبرعات صغيرة من أكثر من 21 ألف مساهم، حيث تبرع 75% منهم بأقل من 100 دولار.
يعزز فوز ممداني فكرة أن جودة المرشحين مهمة، وأن الناخبين لم يعودوا مستعدين لـ”إرغام أنفسهم على اختيار مرشح آخر يعاني من عيوب خطيرة”.
سياسة غزة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، كان ممداني منتقدًا صريحًا لأفعال إسرائيل في غزة، ووصفها بأنها “إبادة جماعية”، ودعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.
في حين أدان هجمات حماس ووصفها بـ”جريمة حرب مروعة”، إلا أنه لم يؤكد صراحةً حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، مشيرًا إلى أن لها “حقًا في الوجود ومسؤولية الالتزام بالقانون الدولي”.
كما رفض إدانة عبارة “عولمة الانتفاضة”، التي أثارت انتقادات من بعض القادة اليهود الذين اعتبروها دعوة للعنف. وقد أعرب عن كراهيته لمعاداة السامية، ووعد بزيادة التمويل المخصص للوقاية من جرائم الكراهية إذا تم انتخابه.
اعتنق ممداني مواقف ذات ميول يسارية في السياسة الاجتماعية والخارجية، وتبنى تشريع “ليس على حسابنا”، الذي يهدف إلى منع الجمعيات الخيرية التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها، من تمويل أنشطة الاستيطان الإسرائيلية.
وقد لاقى هذا الوضوح الأيديولوجي، الذي وضعه مع شخصيات مثل بيرني ساندرز – عضو الكونغرس المستقل – صدى لدى شريحة كبيرة من القاعدة الديمقراطية.
ربطت حملة زهران ممداني موقفها بشأن حرب غزة بالمطالب المحلية لسكان نيويورك، من خلال تأطير قضية دولية باعتبارها قضية ذات صلة مباشرة بولاية نيويورك، ومن خلال الاستفادة من هويته واتصالاته الرقمية لتعبئة جمهور متنوع من الناخبين المهتمين بكل من القدرة على تحمل التكاليف، ومواقف السياسة الخارجية المحددة.
وقد تم إجراء هذا التقاطع والاتصال من خلال:
1- تشريع “ليس على حسابنا”: دافع ممداني عن تشريع “ليس على حسابنا”، الذي يهدف إلى جعل تمويل الجمعيات الخيرية التي تتخذ من نيويورك مقرًا لها للأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية وانتهاكات اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي أمرًا غير قانوني.
أوضح أن ولاية نيويورك، بمنحها هذه المنظمات وضع المنظمات غير الربحية، “تدعم فعليًا هذه الفظائع” و”جرائم الحرب”. ربطت هذه المبادرة بشكل مباشر الصراع الخارجي بالسياسات المالية والتنظيمية لولاية نيويورك، واعتبرته قضية تتعلق بالحكم المحلي.
2- تكلفة المعيشة كرسالة مركزية: ركزت حملة ممداني باستمرار على أزمة تكلفة المعيشة الساحقة في مدينة نيويورك، واقترح تدابير مثل: تجميد الإيجار لمليوني مستأجر، وإنشاء 200 ألف وحدة سكنية جديدة بأسعار معقولة، وجعل الحافلات “سريعة ومجانية”، وتوفير رعاية الأطفال الشاملة، وكل ذلك يتم تمويله من خلال فرض الضرائب على الشركات والأثرياء.
كانت رسالة القدرة على تحمل التكاليف هذه بمثابة المحرك الأساسي للعديد من ناخبيه. أشار نجاح حملته إلى أن العديد من الناخبين إما وافقوا على آرائه بشأن إسرائيل، أو كانوا على استعداد لتجاهلها لصالح تركيزه القوي على القضايا الاقتصادية، ونهجه الجديد والحيوي في السياسة.
3- الهوية والائتلاف الموسع: سمحت الخلفية الفريدة لممداني- بصفته اشتراكيًا ديمقراطيًا يبلغ من العمر 33 عامًا، وهو الابن المسلم المولود في أوغندا لأبوَين هنديين- بالتواصل مع الناخبين المنفصلين سابقًا وتنشيطهم، وخاصة الناخبين غير البيض، وأولئك الذين لديهم مشاعر قوية تجاه الأحداث الدولية.
سمحت له خلفيته بالتواصل مع مجتمعات متنوعة، بما فيها تلك التي تضم أعدادًا كبيرة من سكان جنوب وشرق آسيا، وكان غالبًا ما يخاطب الحشود بلغات مثل الهندية والإسبانية.
في حين كان التركيز الأساسي لسياساته هو القدرة على تحمل التكاليف، فإن موقفه بشأن حرب غزة كان مرتبطًا أيضًا بفئات سكانية محددة داخل ائتلافه، مثل المجتمعات المسلمة والشباب التقدمي.
على سبيل المثال، سلط مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، الضوءَ على أن بعض المهاجرين والناخبين ذوي الدخل المنخفض الذين صوتوا لصالح ترامب؛ فعلوا ذلك بسبب “غزة، والقدرة على تحمل التكاليف، وأشياء أخرى”.
ويشير هذا إلى أن قضايا السياسة الخارجية كانت متشابكة بالنسبة لبعض الناخبين مع مخاوفهم الأوسع نطاقًا بشأن قادتهم وحياتهم اليومية.
كانت إستراتيجيته على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي غالبًا ما أظهرته وهو يناقش الحجج السياسية حول القضايا اليومية مثل تكاليف البقالة وأجور المترو، فعالة في سد الفجوات بين الأجيال والثقافات، مما سمح للمؤيدين الأصغر سنًا بمشاركة رسالته مع أقاربهم الأكبر سنًا. وقد ساعد هذا في بناء تحالف قادر على استيعاب المظالم الاقتصادية المحلية والمخاوف الدولية.
4- الإطار السياسي: قدم ممداني رؤية للحزب الديمقراطي الذي “يقاتل من أجل الطبقة العاملة دون اعتذار”، ويضمن “حياة كريمة” لكل مواطن نيويوركي.
سمح هذا الموقف الأيديولوجي واسع النطاق لمقترحاته المحددة بشأن القدرة على تحمل التكاليف ومواقفه بشأن القضايا الدولية مثل حرب غزة، بالتعايش داخل منصة تقدمية متماسكة جذبت جناحًا يساريًا جديدًا وأصغر سنًا وأكثر نشاطًا في الحزب الديمقراطي.
وفي حين اعتبر النقاد مواقفه بشأن إسرائيل مثيرة للجدل أو معادية للسامية، فقد تعهد ممداني بأن يكون عمدة لجميع سكان نيويورك، ومعالجة المخاوف بشأن جرائم الكراهية.