
تمرّ اليوم ذكرى انقلاب 30 يونيو 1989، اليوم الذي صعد فيه عمر البشير إلى سدّة الحكم في السودان دون أن تُطلق رصاصة واحدة، ودون أن تتحرك دبابة واحدة في قلب الخرطوم. حدثٌ استثنائي في تاريخ الانقلابات العسكرية، ليس فقط على مستوى السودان، بل في تاريخ إفريقيا الحديث، حيث عُرفت الانقلابات دائمًا بالدم والبارود.
لكن انقلاب الثلاثين من يونيو كان مختلفًا. كان هادئًا، مُخططًا له بعناية، ومُدارًا بعقل سياسي فذ، تمثل في شخصية الراحل حسن الترابي ، الأب الروحي لذلك التحول الكبير، الذي استخدم فقه الواقع والاختراق الناعم لمؤسسات الدولة، ليهيئ الأرضية السياسية والعسكرية لهذا الحدث المفصلي.
ما يجعل انقلاب 1989 استثنائيًا هي عبقرية الترابي، السياسي المثير للجدل، الذي استطاع أن يؤسس لتحالف نادر بين المدنيين والعسكر، لم يكن البشير قائد الانقلاب بالمعنى الحرفي فقط، بل كان ثمرة حسابات دقيقة صنعتها غرفة تخطيط يقودها الترابي.
لقد نجح الترابي في تصدير انقلاب يبدو عسكريًا، لكنه في جوهره كان انقلابًا “مدنيًا بعباءة عسكرية” ، وبهذا تجنّب مواجهة مباشرة مع أي خصوم سياسيين، وحشد تأييدًا شعبيًا لاحقًا بالخطاب الإسلامي الذي كان في أوج شعبيته نهاية الثمانينيات.
مهما اختلف الناس حول البشير ونظامه، فإن المراقب المنصف لا يمكنه إنكار بعض المنجزات المهمة التي تحققت، خصوصًا في العقد الأول من الحكم، فبعد فترة طويلة من اضطراب ما بعد الديمقراطية الثالثة، جاء نظام الإنقاذ ليستتب الأمن في العاصمة والولايات. تم القضاء على مظاهر التفلت والسلاح في المدن، وبدأت الدولة في فرض سلطتها بشكل فعال، ولو بأساليب بوليسية.
رغم الحصار والعقوبات، شهدت سنوات التسعينات وأوائل الألفينات تحسنًا ملحوظًا في الاقتصاد بعد استخراج النفط عام 1999، مما أدى إلى نمو الناتج المحلي، وتحسن الخدمات، وانتعاش البنية التحتية ،حيث تم تعميم التعليم الأساسي في الريف، وازدادت الجامعات عددًا بعد سياسة “ثورة التعليم العالي”. صحيح أن الجودة كانت محل نقد، لكن مبدأ إتاحة التعليم لجميع أبناء الشعب شكّل نقلة مهمة ،ومن الطرق والكباري إلى شبكات الكهرباء ومشاريع الزراعة، لقد كانت هناك محاولات حقيقية لتحديث البنية التحتية، وإن تفاوتت في النجاح والإدارة.
ولكن هذه الإيجابيات لم تصمد طويلاً أمام شهية السلطة واستشراء الفساد. أبرز ما قوّض شرعية المشروع الإسلامي كان الانحراف عن مبادئه الأولى ، وقد بدأ الانقلاب بمبرر “إنقاذ البلاد من الفوضى والفساد”،
لكن سرعان ما أصبح التمديد والتجديد هدفًا بذاته. تم تعديل الدستور أكثر من مرة لإبقاء البشير في الحكم، حتى صار الأمر مادة للسخرية الشعبية.
ففي نهاية عهده، لم يكن البشير يخجل من وصف بعض قيادات الحزب والحكومة بـ”القطط السمان”. حيث انفجرت ملفات الفساد في الإعلام، وظهرت طبقة ثرية من السياسيين، والمنتفعين، و”العجوبات” ما جعل المشروع الإنقاذي يفقد أي بريق أخلاقي ، وتحولت البلاد من دولة صاحبة مشروع إلى دولة تتحكم فيها المصالح الشخصية الذاتية الضيقة ،
ومن مظاهر الخراب الذي استشرى في تلك الفترة ظاهرة عجوبة الخراب وزبانيتها التي، كانت تمارس أبشع أشكال الفتنة داخل أروقة الحكم والحزب تحيك الدسائس للوزراء، وتبث السموم في علاقات الولاة، وتتلاعب بخيوط الولاء والانتماء كأنها تحرك قطع شطرنج . وكم من مسؤول تم إسقاطه أو استبعاده بسبب وشاية أو حملة نفسية مدروسة نسجتها عجوبة بدهاء وخبرة بهدف ألا يعلو أحد فوق صوتها، أو يزاحمها في “إقطاعية النفوذ”
ذكرى انقلاب 30 يونيو تظل علامة فارقة في التاريخ السوداني. كانت البداية مليئة بالطموحات، تقودها عقول سياسية لامعة مثل الترابي، لكن النهاية كانت محبطة، مليئة بالتناقضات والخيبات.
إن مراجعة هذه التجربة ليست ترفًا، بل ضرورة وطنية لفهم طبيعة السلطة، وطرق إنتاجها، ومآلاتها. فالأوطان لا تنهض إلا بالصدق مع الذات، والاعتراف بالأخطاء قبل المطالبة بالإصلاح.